حال الاتحاد العمالي العام، بعد كلام رئيسه بشارة الأسمر عن البطريرك الراحل نصر الله صفير، لم يستدعِ العمل على إجراء تغيير نوعي لسياسة الاتحاد وهيكليته الإدارية. تغيير يُعيد للاتحاد دوره الفعلي. فقوى السلطة لا تريد له أكثر مما يقوم به اليوم، أي أن يكون أداتها لتهدئة الشارع حين يفكّر أحدٌ باللجوء إليه للإعتراض على قرارات السلطة. بل استغلّت تلك القوى "زلة" الأسمر لتعيد خلط أوراقها في ما يخص رئاسة الاتحاد. والصراع على رئاسة الاتحاد، لا دخل له باستعادة الدور النقابي الحقيقي، وإنما بالسيطرة على ماكينة تهدئة الشارع والعمال أو تحريكهما وفق الغاية السياسة وحاجتها.
الكلمة لنبيه برّي
يبسط رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، سيطرته على رأس هرم الاتحاد العمالي العام. فأي تركيبة إدارية داخل الاتحاد، يجب أن يصدّق عليها برّي، الذي يُمسك بأوراق أكثرية الاتحادات النقابية المكوّنة للاتحاد العمالي. وقوّة برّي، بالإضافة الى الغطاء المسيحي القواتي، فَرَضت في العام 2017 انتخاب بشارة الأسمر رئيساً، بالإضافة إلى الإبقاء على حسن فقيه نائباً للرئيس. وقد بارَكَ حزب الله هذه الصيغة.
وفي المحصّلة، بقي التيار الوطني الحر خارج موقعي الرئاسة ونيابتها، لكن الحلم بالرئاسة لم يفارق مخيّلة رئيس التيار جبران باسيل، الطامح للسيطرة على كل المواقع التي يشغلها المسيحيون عموماً، والموارنة خصوصاً. ومع إطلاق الأسمر النار على نفسه (مجازياً) بعد هذره بحق صفير، ظنّ باسيل أن أسهم سيطرته على رئاسة الاتحاد قد ارتفعت. فجميع القوى السياسية أدانت ما قاله الأسمر وتركته ليواجه مصيره بنفسه. والقوات اللبنانية التي دعمت انتخاب الأسمر تماشياً مع رغبة برّي، ولضمان إبعاد التيار عن المنصب، تتفق مع التيار اليوم على ضرورة إحداث تغيير يمحي الوصمة التي تركها الأسمر. لكن موقف القوات لا يعني بالضرورة الخروج عن توافقها مع برّي وانحيازها لباسيل. فرئيس حركة أمل أدان الأسمر ونعى قبل ذلك البطريرك صفير. ما يعني ان قواعد لعبة رئاسة الاتحاد لم تتغيّر. وما يؤكد ذلك، هو قدرة برّي على استيعاب الصدمة، ودعم فقيه بقيادة الاتحاد مؤقتاً ريثما تهدأ الأمور. وتلك القدرة، جنّبت إسقاط الاتحاد وإعادة خلط الأوراق، تحت مظلّة الإنتقام ممّن تطاوَل على رمز مسيحي وماروني كبير.
باسيل والموقع المسيحي
طموح باسيل بالوصول إلى رئاسة الجمهورية، خلفاً لعمّه ميشال عون، لم يحدّ من تهافته على "أكل" أي منصب مسيحي. ومع غياب أي نص يحصر رئاسة الاتحاد بشخص مسيحي أو ماروني، قضى العُرف بانتخاب رئيس مسيحي، منذ الرئيس الأول (بعد الإستقلال) غابريال خوري الذي كان مارونياً، والذي خَلَفه جورج صقر وكان أرثوذكسياً، ثم الماروني أنطون بشارة، والأرثوذكسي إلياس أبو رزق، فالماروني غنيم الزغبي، ومن بعده الأرثوذكسي غسان غصن، وصولاً إلى الماروني بشارة الأسمر. أما الأمناء العامون فتنقّلوا بين الموارنة والسنة والشيعة.
ورغم هذا العُرف، إلا أن حظوظ باسيل بكسر شوكة برّي معدومة. فهو لا يملك الأكثرية العددية المطلوبة لإيصال مرشّح إلى الرئاسة. وكل ما يمكنه فعله هو دعم أحد المرشّحين. وهنا يبرز إسم أنطون أنطون التابع لتيار المردة، كأكثر المرشحين حظوظاً للوصول إلى الرئاسة بعد أفول نجم الكتائبي موسى فغالي، الذي كان مدعوماً من وزير العمل الأسبق سجعان قزّي، حين كادت المفاوضات مع حركة أمل أن توصله إلى الرئاسة، لولا انتهاء ولاية قزّي وإخراج إسم فغالي من التداول.
ودعم باسيل لمرشح من تيار آخر لا يفيده بشيء. فليس هناك خلاف مع أمل حول تغيير العرف وانتخاب رئيس مسلم. وبالتالي لا داعي لتحالفات طائفية تضع تيار المردة خارج إطار التحالف مع أمل وحزب الله. كما أن القوات اللبنانية لن تُسلّم أوراقها لباسيل، طالما يمكنها التفاوض مباشرة مع برّي في حال حكمت الظروف بذلك.
التلويح بهدم الهيكل
يُصرّ باسيل على محاكمة الاتحاد العمالي العام كمؤسسة، على خطأ ارتكبه فرد واحد. فباسيل أعلن مقاطعته لرئاسة الاتحاد "حتى يقوم المعنيون بحسن التمثيل، وغير ذلك لا يكون هناك تصحيح للتمثيل". وفي هذا الكلام إشارة غير مباشرة لكنها واضحة إلى برّي، علماً أن الأخير قال موقفه بشكل غير مباشر عبر رئيس اتحادات ونقابات النقل البري في لبنان بسام طليس، الذي أكّد أن "ما صدر من إساءة لا يمثل الاتحاد العمالي العام ونقاباته وقطاعاته المنضوية في إطاره بل يمثل ويشبه قائله وحده". ودعا طليس إلى "استمرار العمل في مؤسسات الاتحاد العمالي العام الذي لا يُختصر بشخص بعينه، وإنما بمؤسساته الفاعلة".
لكن المستغرب هو خروج القوات اللبنانية عن التوافق مع برّي مرحلياً، عبر استحضار وزير العمل كميل أبو سليمان، للمادة 105 من قانون العمل، التي تتيح برأيه "إقالة رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر". والمادة تنص على أنه "إذا أخل مجلس النقابة بالواجبات المفروضة عليه أو أتى عملاً لا يدخل في اختصاصه، حق للحكومة أن تحل هذا المجلس.. وإذا قام بهذه الأمور أحد أفراد المجلس فللحكومة أن تطلب استبداله، وأن تلاحقه أمام القضاء عند الإقتضاء".
وهذه الدعوة تستكمل قرار رئيس التكتل النقابي المستقل جورج العلم، بتعليق بعض الاتحادات عضويتها في الاتحاد العمالي العام "رفضاً للتطاول على مقام الكاردينال نصر الله صفير وإلى حين استقالة المفترين وتصحيح الخلل المزمن". وللمفارقة، فإن الاتحادات التي علقت عضويتها، هي الاتحادات المسيحية التي "تمون" عليها القوات اللبنانية، ما يوحي بأن الاتحادات المسيحية تقف ضد الاتحادات المسلمة التي "تمون" عليها حركة أمل وحزب الله، أو أن من بقي في الاتحاد العمالي العام ولم يعلّق عضويته، هو المسؤول عمّا قاله الأسمر. وعليه بالتالي، تصحيح الخطأ من تلقاء نفسه. وهذا الموقف يتناقض مع حقيقة توزيع الأدوار والتحالفات داخل الاتحاد، ويدفع باتجاه انقسام الاتحاد وهدم بنيانه، وهو ما لن يقبل برّي به.
إقرار التعديلات
واقع الخروج عن الحجم الحقيقي للمشكلة، والإنتقال إلى التصويب على مؤسسة الاتحاد العمالي العام، التي تحتمي بها كل نقابات السلطة السياسية، يعيد إلى الأذهان ضرورة البتّ بالتعديلات التي أقرّتها اللجنة التي تألفت في العام 2001، والتي ضمّت ممثلين عن وزارة العمل والاتحاد العمالي العام وأصحاب العمل وقضاة. فاللجنة أجرت تعديلات على قانون العمل، تُخرِج النقابات والاتحادات النقابية من سيطرة السلطة السياسية، التي تملك بموجب القانون المعمول به حالياً، والصادر عام 1946، إمكانية عدم الترخيص للنقابات. فلا تحصل النقابة بموجب القانون على ترخيص إلا بموافقة وزارة العمل، بعد أخذ رأي وزارة الداخلية.
والتعديلات أخذت بالاعتبار تطوّر قوانين العمل الدولية والاتفاقيات الدولية التي ترعى شؤون العمل النقابي. كما اعتمدت على طروحات الحكومة ومنظمة العمل الدولية وما طرحه الاتحاد العمالي وأصحاب العمل، لكن التعديل نام في دهاليز مجلس النواب.
خضر حسان - المدن