أبعد من الموازنة: باسيل يخسر الجيش بمعركة الرئاسة

أبعد من الموازنة: باسيل يخسر الجيش بمعركة الرئاسة
أبعد من الموازنة: باسيل يخسر الجيش بمعركة الرئاسة

في لبنان، هناك من يريد كلّ شيء. قالها في أكثر من محطّة ومناسبة: "نريد استعادة الحقوق والصلاحيات". كلّ ما يجري في هذه الآونة يندرج بخانة هذه العبارة، من المعركة التي فتحت على رئاسة الاتحاد العمالي العام، خلفاً لبشارة الأسمر، إلى حراك المتقاعدين العسكريين المحاولين اقتحام السراي الحكومي، في لحظة تعني الكثير للرئيس . هي لحظة استقباله لنائب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد ساترفيلد. فبالتأكيد، عندما تلقّى خبر محاولة اقتحام السراي، تذكّر إسقاط حكومته في لحظة لقائه الرئيس الأميركي، باراك أوباما. يومها تباهى وزير الخارجية جبران باسيل بأن الحريري دخل إلى لقاء البيت الأبيض رئيساً للحكومة وخرج رئيساً سابقاً.

حلف باهظ الثمن 
اليوم انتقل موقع باسيل من الخصم للحريري، إلى الحليف. لكنه الحليف الذي تتفوق كلفة محالفته على خسائر خصومته. إنه الحليف الذي يريد كلّ شيء. تتملكه رغبة عارمة في الاستحواذ على كل شيء. لديه طموح جامح لأوسع قدر من السلطة، لا يبدو الحريري قادراً على لجمه، ولا أي طرف آخر. الجهة الوحيدة القادرة على كبح جماح باسيل هو حزب الله. لكن الحزب يناسبه أن يقف متفرجاّ على "حليفه الاستراتيجي" يستنزف الجميع، ويستثمر أي حدث، مهما صغر شأنه، لتكبير موقعه ونفوذه، بما يعزز وضعية الحزب أكثر لبنانياً.

لربّما يكتشف الرئيس سعد الحريري هذه الأيام (قبل فوات الأوان؟)، أن باسيل من الحلفاء الذين لا يؤمن لهم. طوال الوقت، لم يتوانَ رئيس تيار المستقبل عن تقديم التنازل تلو الآخر لصالح باسيل ورئيس الجمهورية. وطوال الوقت، يسارعان إلى المطالبة بالمزيد. وإن تردد بتلبية ما يريدان، فالضغط جاهز والقوة بيدهم.. وخوف الحريري واحد، هو إسقاط حكومته. تلك الحكومة التي "أنتجها" باسيل مثلما يشتهي ويريد، وتمكّن فيها من إمساك ورقة إقالتها، بالحصول على الثلث زائد واحد.

في هذه اللحظة، تأتي تحركات العسكريين وفق توقيت غريب، وفي رسالة تصيب عدة أهداف. الانتقال من مجرد الاعتصام المطلبي إلى محاولة اقتحام السراي عند انعقاد مجلس الوزراء، ليس عفوياً. والهتافات والشعارات التي رددها العسكريون المتقاعدون، تحمل مضموناً سياسياً ليس عفوياً.

بين اليرزة وقصر بسترس
تستهدف هذه الحركة العنيفة نوعاً ما، عند مدخل السراي، الحريري. كما تستهدف باسيل. إذ من الخطأ اعتبار أن حراك العسكريين المتقاعدين يحدث برضى رئيس التيار الوطني الحرّ. بل كان هو أول من بادر إلى الإعلان عن تخفيض مخصصاتهم، بالإضافة إلى تخفيض رواتب الموظفين. لكن ميزة باسيل أنه قادر على الاستثمار في هذه التحركات، حتى ولو كانت في جزء أساسي منها موجهة ضده، أو غير راضية عن أدائه، فيناور ليضعها في حسابه بشكل أو بآخر، ومستفيداً منها في "علاقته" مع الرئيس سعد الحريري.

المشهد الأساسي الذي تظهّره تحركات العسكريين خصوصاً، هو أن المرجعية الوحيدة القادرة على حلّ المشكلة هي رئاسة الجمهورية. الرئيس وحده القادر على التوفيق بين المقربين منه وباسيل. والرئيس وحده القادر بسلطة ترؤسه المجلس الأعلى للدفاع، أن يحسم الجدل بشأن التدبير رقم 3، وإيجاد الحلّ الملائم له.

لكن بعض المعلومات تشير إلى أن ثمة خلافات بين باسيل وقيادة الجيش على عدة ملفات وقضايا تتخطى بكثير أزمة العسكريين المتقاعدين. وإذا كان رئيس الجمهورية عادة هو الكفيل بإيجاد الحلّ لها، وإرساء الوئام بين اليزرة والخارجية. إلا أن اليرزة هذه المرة تبدو وكأنها تحيّد الرئيس عون وتواجه باسيل في أمور جدية ومستقبلية. لـ"العماد" عون وتاريخه في المؤسسة العسكرية مكانة محفوظة.. وهذا غير قابل لتوريثه لـ"المدني" جبران باسيل. قائد الجيش جوزيف عون، كما كل قادة الجيش اللبناني سابقاً، لهم الحق "الطبيعي" بعد الخروج من السلك، الإنخراط في الشأن العام وفي السياسة على أعلى مستوى. هذا ما يستشعره باسيل أولاً ويحسب حسابه. وإذا صحت المعلومات أن الأميركيين أسمعوا جوزيف عون ما مفاده "كما هناك مرشح لرئاسة الجمهورية اسمه جبران باسيل، يمكن ان يكون هناك مرشح آخر اسمه جوزيف عون"، فإن صراع قائد الجيش ووزير الخارجية سيتوسع مداه بالمستقبل القريب، خصوصاً، وأن الأميركيين الذين يرعون المؤسسة العسكرية ويهتمون بها اهتماماً خاصاً منخرطون في "معركة" التضييق على حزب الله وحلفائه "التيار الوطني الحر".

خسائر الحريري 
بالعودة إلى مجلس الوزراء.. باسيل، الذي أطلق باكراً موقفه بشأن رواتب العسكريين المتقاعدين والموظفين، عاد ونجح في إبعاد نفسه عن الموضوع، وترك الحريري في الواجهة. فبقيت السراي الحكومي مقصد التظاهرات، التي وصلت في نهايتها إلى محاولات اقتحامه. وهذا تزامن مع تقديم باسيل لورقته الخاصة بالموازنة، ومحاولته إلزام جميع القوى بها. يقودنا هذا إلى خلاصتين. الأولى، أن مسألة العسكريين تحلّ من قبل مجلس الدفاع الأعلى فلما هذا الحراك؟ والثانية، هي انتهاز باسيل للصخب والفوضى لتوظيفهما ضغوطاً على الحريري، كي تخرج الموازنة كما يريدها وزير الخارجية. ما يصب أيضاً في جموحه لا لـ"استعادة" الصلاحيات، بل بالأحرى لـ"الاستحواذ" على مطلق الصلاحيات.

والمفارق أن هذه الضغوط التي يتعرض لها الحريري، ستعيده إلى حضن باسيل، باعتباره الوحيد القادر على إنقاذه من هذا المأزق. أولاً، بحكم علاقته القوية برئيس الجمهورية على حساب كل الآخرين. وثانياً، لأنه الوحيد القادر على المبادرة وترتيب التسويات. وبلا شك، أن تحرك باسيل لمساندة الحريري، ومساعدته على الخروج من هذا المأزق، سيكون لها أثمان، تبدأ في تكريس باسيل كقادر على اجتراح الحلول للأزمات، وكصاحب قرار في الدولة يراكم المكتسبات. يتجلى كل هذا في أنه آخر من عرض ورقة لإقرار الموازنة، على نحو يبدو وكأنه هو الذي صنعها. كما يتجلى نفوذه عبر الحصول من الحريري على المزيد من الضمانات في التعيينات وغيرها، من المطار وهيئة الطيران المدني التي سيفتح باسيل ملفها بعد الانتهاء من الموازنة، إلى التعيينات في بعض الإدارات وفي المرفأ، بالإضافة إلى ملفات أخرى كملف انترا وغيره.

قال الرئيس الحريري في إفطار "تيار المستقبل" المركزي، إنه يسير محافظاً على نهج الرئيس رفيق الحريري! لكن ميزة الحريري الأب، كانت بنجاح مشاريعه الاقتصادية والسياسية بشكل متكامل. كان الأب يكتنز قدرة هائلة، تقوم على المبادرة وصنع الحدث السياسي وتحديد وجهته. لم يكن يهدأ. وبالتأكيد، لم يتوانَ عن الدفاع عن موقعه وصلاحياته ودوره الوطني الكبير.. بينما الحريري الإبن، غالباً ما يظهر في موقع المضطر للدفاع عن نفسه، والمتلقي للمبادرات، والواقع في حيرة القرار، والمتعثر في اختيار ردّ الفعل المناسب عند كل استحقاق، المنقاد من تنازل إلى آخر بلا حيلة ولا حتى قدرة على الشكوى.. هنا الفارق بينه وبين باسيل، الذي "لا تفرغ قبّعته من الأرانب"، والذي يصطنع المبادرات لإحراج الجميع وإخراجهم الواحد بعد الآخر.

أمام هذا الاختلال السياسي العميق، ربما يجدر بنا انتظار "معركة" الرئاسة، التي بدأت مناوشاتها باكراً.

منير الربيع - المدن

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى