أن تتحول جولات نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد ساترفيلد، إلى رحلات مكوكية بين لبنان وإسرائيل، فهذا يعني أن المفاوضات المتعلّقة بترسيم الحدود تسير بجدّية، وقابلة لتحقيق تقدّم، كان مفتقداً في السابق. رحلة الوساطة الأميركية طويلة، تراخى فيها الأميركيون حيناً وتشددوا أحياناً. وفي فترات أهملوها، مفضّلين انتظار لبنان أن يعود إليهم، طالباً تدخلهم وإعادة إحياء مساعيهم. وهذا ما حدث قبل حوالى عشرة أيام، حين التقى ساترفيلد رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي أبلغه موافقة لبنان على الوساطة الأميركية لترسيم الحدود البرية والبحرية، بشكل متواز ومتكامل. كما الموافقة على إحياء اللجنة الرباعية.
بيد واشنطن لا موسكو
في العام 2012، جاء المبعوث الأميركي فريديريك هوف إلى لبنان، وتقدّم بمقترح تسوية لترسيم الحدود البحرية. وكان هناك خلاف على مساحة 860 كلم مربّع. اقترح هوف يومها، أن يحصل لبنان على 60 في المئة من هذه المساحة المتنازع عليها، مقابل حصول إسرائيل على 40 بالمئة. بقي لبنان على موقفه الرافض لهذا المقترح، إلى الأيام القليلة الماضية. بدا لبنان مراراً كأنه يرفض تلك المفاوضات بوساطة أميركية، وراهن كثيرون فيه على إمكانية تولي موسكو ترتيب التسوية، طالما أن هناك شركات روسية مشاركة في عملية التنقيب. وبرز اهتمام روسي استثنائي في هذا المجال، حتى أن موسكو اقترحت شراء النفط اللبناني وكذلك النفط الإسرائيلي المستخرج من تلك المساحات المتنازع عليها أو المتجاورة، على نحو يصبح مجموع المنتج ملكاً للشركة الروسية، التي تكون هي المسؤولة عن تسويقه وبيعه أو نقله بعد تكرير النفط وتسييل الغاز. وبذلك لا يكون هناك أي علاقة أو مشاركة لبنانية - إسرائيلية.
الطرح الأميركي الجديد، يعيد المبادرة إلى يد واشنطن، التي لم تشارك في عملية التنقيب، ولكنها قد تلجأ إلى إنشاء شركة قابضة مثلاً، تعمل على شراء المنتوجات النفطية من لبنان وكذلك من إسرائيل، لتصبح هذه المنتوجات ملكها، وهي القادرة على التحكم بتسويقها، من دون أي علاقة مباشرة بين لبنان وإسرائيل.
الموافقة الإسرائيلية
أسئلة كثيرة لا بد من طرحها، حول هذا التطور في الموقف اللبناني، الذي بقي متمسكاً بالتكامل في الترسيم براً وبحراً، لكنه وافق على أن تُترك مساحة الأربعين في المئة البحرية معلّقة، ورهن تقدّم المفاوضات وتطورها ورهن قيمة اكتشافات النفط فيها. حقق حزب الله والرئيس نبيه برّي ما كانا يطالبان به، أي التكامل في الترسيم، وعدم الموافقة على فصلهما عن بعضهما البعض. لكن أيضاً حقق الجانب الأميركي جزءاً أساسياً مما كان يريده، أي أن تكون واشنطن هي راعية عملية الترسيم، على الرغم من انها لم تدخل في دورة التراخيص النفطية، ولم تحصل أي شركة أميركية على التزام التنقيب في لبنان.
جاء ساترفيلد الأسبوع الفائت إلى لبنان، وتبلّغ بالرسالة التي تلخص الموقف الموحد للبنانيين، توجه بعدها إلى إسرائيل، حيث التقى المسؤولين هناك، وعاد الإثنين في زيارة سريعة إلى بيروت، التقى فيها الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري، ثم توجه مجدداً إلى تل أبيب، لاستكمال البحث. وحسب ما تكشف مصادر متابعة، فإن ساترفيلد عكس في مباحثاته اللبنانية، جواً إيجابياً وموافقة إسرائيلية على التكامل في الترسيم براً وبحراً، برعاية أميركية، على أن يتم تحضير الأرضية اللازمة لإحياء اللجنة الرباعية التي تضم لبنان، إسرائيل، الامم المتحدة، والولايات المتحدة، للشروع في مفاوضات الترسيم، واختيار اللجان اللازمة لتحديد الخرائط ودراستها. وحسب ما تنقل المصادر، فإن ساترفيلد نقل أجواء إيجابية في هذا المنحى، تحتاج إلى توسعة البحث فيها.
الواقعية اللبنانية
الدخول الأميركي بقوة إلى لبنان من هذه البوابة، لا يمكن فصله عن التطورات السياسية في المنطقة ككل، خصوصاً، وقبل التوافق اللبناني على موقف موحد من عملية الترسيم، كانت تهديدات أميركية قد وصلت إلى لبنان، بالإضافة إلى التحذيرات الجدية والضغوط المستمرة. وربما هي التي دفعت المسؤولين اللبنانيين إلى الاتفاق فيما بينهم على قبول الوساطة الأميركية، طالما أنها ستحقق لهم ما يريدون، وتبعد شبح التوتر عن المنطقة، بالإضافة إلى الحاجة اللبنانية الماسة لاستخراج النفط والاستفادة من مردوده.
حاجة لبنان بقبول الوساطة الأميركية تتعلق بالجانب الاقتصادي حصراً، ولن يسمح لها البعض، خصوصاً حزب الله، أن يتحول إنجاز الترسيم - إذا ما تحقق - إلى مادة أميركية للتصويب على سلاحه، بذريعة انتفاء مهمة السلاح بعد تسوية النزاع الحدودي. فالحزب يعتبر سلاحه ضرورة ضامنة في مواجهة استراتيجية لا علاقة لها بالخلافات التقنية أو الحدودية. وبحال أريد لهذه المفاوضات أن تتوسع لتشمل موضوع السلاح، فعندها ستبرز عوائق عديدة تعترض إنجاز عملية الترسيم، كما هو واقع الحال في مزارع شبعا.
منير الربيع - المدن