نقاش الموازنة: بين التهريج الشعبي والمسؤولية السياسية

نقاش الموازنة: بين التهريج الشعبي والمسؤولية السياسية
نقاش الموازنة: بين التهريج الشعبي والمسؤولية السياسية

تمضي الحكومة اللبنانية في نقاش الموازنة الوطنية العامة، ويتبادل أطراف التشكيلة اللبنانية، الذين يشكلون بمجموعهم الحكومة، الاقتراحات المتبادلة، ويتداولون في الرد وفي الرد على الرد. وهم إذ يفعلون ذلك، يقدمون للبنانيين اقتراحاتهم حول ما يستطيعونه في العاجل، ولا يقدمون لذات الجمهور العريض اللبناني رؤيتهم للآجل، الذي يفترض خطة معينة تشرح لماذا جرى اعتماد مبضع "القصقصة" في التقديمات الاجتماعية المباشرة، وتشرح بعناية تصميم وتفاصيل "الثوب" الاجتماعي الأنيق، الذي ستخلعه على عري اللبنانيين الاجتماعي أيضاً بعد عدد من السنوات.

الانحدار إلى الفقر
التخطيط الذي يبدو غائباً عن هموم النقاشات الحكومية يجعل الوزراء، فرادى ومتحلقين حول أفراد، غير معنيين بتضمين كلامهم الكثير عن الأرقام وأبواب الصرف، القليل من كلام التحديد حول مدد زمنية مقترحة لخطط ثلاثية أو خمسية أو عشرية. تعيين الخطة بنصها وأرقامها وفذلكتها، ووضعها ضمن إطار زمني قابل للمراقبة سنوياً، وخاضع للمراجعة والمحاسبة في نهاية المهلة التخطيطية المعينة، هو ما يعطي المتحدث المالي الرسمي بعضاً من جدية القول، ويجعله في مرمى المساءلة والمحاسبة، ويكسبه شيئاً من ثقة الجمهور المستهدف بالتقشف، والذي ينتظر ألا تدفعه السياسات المعتمدة إلى ما تحت خطوط الإفقار. معادلة المالية، بما هي مسؤولية اجتماعية مشتركة، طرفها الأول مسؤولية "الحاكم"، وطرفها الثاني استعداد "المحكوم" للتضحية، شرط أن يكون النور الذي في آخر النفق جليّاً لا تخطئه عين، ولا تتوه عنه بصيرة. عروة المسؤولية والتضحية الثقة، وهذه الأخيرة مفقودة لدى اللبنانيين عندما يكون جمهرة جمع، وموزعة طائفياً ومذهبياً، لأن اللبنانيين ما زالوا جماهير متفرقة.

هذه الحقيقة العيانية تعاند رغبة الذين يرون في سوء الأحوال المعيشية والاقتصادية دافعاً إلى توحد اللبنانيين المتفرقين أهواء وسياسات. هذا الافتراض لا يتعدى نوعاً من القراءة المبكرة، كي لا نقول السريعة، وحالة توحد اللبنانيين سياسة، مسار طويل، فالفقر ما زال وضعية ينحدر اللبنانيون تباعاً إليها، لكن الفقر إياه لم يتحول حتى تاريخه إلى عود ثقاب يشعل فتيل السيرة السياسية اللبنانية الواحدة. قد يشهد البلد انفجاراً ما، لكنه سيظل دون الانفجار الاجتماعي العام، ولذلك، ومن دون اختمار يراكم مجموع الوضعيات الناشئة بين جنبات حياة اللبنانيين، ومن دون تحركات متصلة ومتواصلة تستثمر الاختمار سياسياً، فتوظفه اجتماعياً، وتوظف فيه فكرياً وسياسياً ومطلبياً... من دون ذلك ستبقى الحالات الحبلى بالأزمات المتداخلة، مفتوحة على إجهاض يليه إجهاض.

المعارضة والتهريج
رعاية الحالات المأزومة اجتماعياً، هي من مهمات القوى المعترضة، تلك التي ما زالت مقصِّرة عن أن تكون حالة معارضة واسعة، ذات مشارب اجتماعية متعددة، وذات قوى سياسية متنوعة يجمعها الحد الأدنى من الائتلاف الذي يعترف بالخلاف البعيد الأمد فلا يلغيه، ويقرّ باختلاف الآخر الحزبي أو الفردي أو المجموعاتي أو الجمعياتي... فلا يقصيه.

حديث المعارضة هو غير حديث التهريج الشعبي، إذ لا بد من ملاحظة الفارق بين التحرك الشعبي الذي تقوده خطة واضحة في قوله، وتسير به إلى تحوله إلى خطة واضحة في عمله. التهريج الذي ورد كمفردة لا يرد بصفته التهكمية، بل يرد بصفته الترفيهية، وهذه الأخيرة مكانها المسرح الفكاهي، حيث الترويح عن النفس وحيث إطلاق الشحنات المكبوتة من خلال القهقهة العالية أو التصفيق الحاد. هذه الصفة التنفيسية ليست من السياسة المعارضة المقصودة، إذ بين بناء الوعي من تحرك إلى تحرك، واكتساب القوة وتنميتها من محطة إلى محطة، هو غير ما بين التحرك التعويضي والتنفيسي الذي صار شكل الاحتجاج الغالب على الشارع الاعتراضي اللبناني، خاصة منذ عام 2015 وحتى تاريخه. تجدر الإشارة إلى أن التشكيلة الحاكمة والمتحكمة تتسامح، وما زالت متسامحة جوهرياً مع الحركة التنفيسية، ولن تكون متسامحة مع الحركة التي تكتسب سمات المعارضة الجوهرية.

واقعياً، وحتى لا تكون النظرة أحادية، لا تُستثنى الأحزاب السياسية التي تتحرك موسمياً من صفة "التهريج" السياسي، الذي بات كناية عن نضالية تعويضية لا تتجاوز مهمتها عملياً، غير مهمة إثبات الوجود لهذا الحزب أو ذاك. لنقرأ ما هو مرفوع من شعارات في الشارع اليوم، ولنسمع ما هو مقروء من خطابات مدنية وخطابات حزبية، ولنقرر ما هو الفارق بين الخطب الجمعياتية والخطب الحزبية. إذا نُحِّيت الرطانة الحزبية الخطابية، وإذا استُبعدت بعض الجمل المروية من حقبات نضالية سابقة، نجد أنفسنا أمام ذات الشعارات المصاغة بكلامٍ فصيح على الضفة الحزبية، وبكلام اللهجة المحكية على الضفة المدنية. وعليه، كيف يحصل التمييز؟ وما هي مسؤولية المعارضة عن الرد على الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الخانقة؟ وما هي مسؤوليتها أولاً وأساساً، عن السعي إلى التشكيل الجمعي بديلاً من إثبات وجود الحزبية الفردية، هذا الوجود الذي تحوَّل إلى اللاتأثير الحقيقي، وإلى اللافعل الاجتماعي الفعّال، على الضد من كل الإدعاءات التي تنكر هذه السمات الواقعية.

النفس النضالي الطويل
في موسم السياسات المالية الحالي، وبعيداً من الشعارات المتوسطة والبعيدة الأمد، تتحمل قوى المعارضة والاعتراض، مسؤولية التصرف حيال الشأن المالي بصفته ملكية اجتماعية عامة، وبصفته مسألة سيادية تدفع الوضع اللبناني إلى وهدة الدولة الفاشلة، إذا لم تفلح السياسات العامة في إنقاذه من الوصول إلى مصير وضع اليد الخارجية عليه، بسبب من الإخفاق المالي، والعجز عن سداد كل المترتبات المستحقة لإدارة الشؤون الوطنية العامة، في كل مرافقها وعلى أصعدتها المختلفة. انطلاقاً من ذلك، لا يجوز لمن شاء معارضة واعتراضاً، ممارسة سياسة تقديم الفواتير وتبويب الطلبات فقط، هذا لأن المسؤولية المعارضة تفترض رؤية اقتصادية برنامجية أيضاً، يتوازن فيها الاقتراح الإجرائي الإنتاجي مع القول الاستهلاكي. هذه الرؤية الشاملة لها فروعها المكونة من أسئلة ومن مشاريع أجوبة، تنطوي على شرح لماذا هذا الإجراء الاقتصادي دون غيره، ولماذا التوظيف المالي هنا وليس في مكان آخر، وعن الفارق بين هذه الإدارة السياسية الاجتماعية للاقتراحات والإجراءات، وبين الإدارة المغايرة، وكيف جرى تقدير المهل الزمنية فاقتضى تحديدها بعدد من السنوات دون غيره، وما هي الاحتمالات والتوقعات من الرؤية المعارضة المطروحة، على صعيد سلبياتها المحتملة وعلى صعيد إيجابياتها الممكنة في نهاية المطاف. خلاصة القول، إن المعارض مسؤول عن الإنتاج مثلما هو مسؤول عن المطالب، خاصة في ظل الظروف اللبنانية الدقيقة الحالية، والمعارض ذاته، مسؤول عن حمل المسؤولية الوطنية، وعن معاينة الهموم والمهمات الحقيقية الواقعية، وبعيد عن الشعبوية و"الحراكية" والانتظارية.. هذه التي لا يقوم أصحابها بما هو ممكن جزئياً، ويطيلون الجلوس على مقاعد انتظار المستحيل كلياً، لأنهم لا يملكون قوى النهوض بأعبائه، ولا يسعون جدياً في "مناكب" بناء هذه القوى بناءً حقيقياً، بمثابرة شجاعة، وبنفس نضالي اجتماعي طويل طويل.

أحمد جابر - المدن

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى