بينما تشتد وتيرة مناقشات الموازنة، وما تحمله من تخفيضات غير واضحة المعالم بعد، وفيما تتحرك غالبية القطاعات الوظيفية في الإدارات والمؤسسات العامة اعتراضاً على ما سيطالها في هذه الموازنة، "الأكثر تقشفاً" بتاريخ لبنان حسب توصيف رئيس الحكومة سعد الحريري، برز إلى واجهة المتابعة والاهتمام في الأيام الماضية الأخيرة، التوجس من نيات مبيتة لدى البعض نحو إنتاج أو إعادة إنتاج "دولة بوليسية" في عصر تنهار فيها كل "الدكتاتوريات" والأنظمة البوليسية.
هذا التوجه والتوجس منه، جاء بعد المذكرة التي أصدرها رئيس الحكومة سعد الحريري بتاريخ 6 أيار2019، والتي تذكر بقانون الموظفين الصادر عام 1959، ولا سيما المادة 15 منه التي "تحظر على الموظف أن يقوم بأي عمل تمنعه القوانين والأنظمة النافذة، والتي تحظر أيضاً في فقرتها الثالثة على الموظف أن يضرب عن العمل أو يحرض غيره على الإضراب".
تغريدة باسيل
وما فاقم في التوجس، تغريدة وزير الخارجية والمغتربين، جبران باسيل، التي جاءت بعد قيام جهاز أمن الدولة بالتحقيقات في تسريبات وزارة الخارجية، وكذلك بـ"زيارة" مبنى جريدة "الأخبار"، والتي ذكر فيها بقانون العقوبات الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 340 \1943 ولا سيما المادة 376 المعدلة بالقانون 239 \1993 والتي تأتي تحت باب "في إساءة إستعمال السلطة والإخلال بواجبات الوظيفة".
وتولى باسيل في تغريدته شرح نص المادة التي تقول: "كلّ موظف أقدم بقصد جلب المنفعة لنفسه أو لغيره أو بقصد الإضرار بالغير على فعل لم يخص بنص في القانون ينافي واجبات مهنته، يعاقب بالحبس من شهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من عشرين ألف إلى مئتي الف ليرة".
هذا الشرح، وهذه التغريدة، طرحتا الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام في التوقيت والمعنى، والجهات الموجهة إليها. فهل المقصود هم الذين يتظاهرون في الشارع ويعتصمون في الساحات؟ أم المقصود الدبلوماسيين وموظفي وزارة الخارجية، التي ميزها باسيل مؤخراً بإلحاق الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية دون غيرهم من الناجحين لمصلحة الوزارات الأخرى، بحجة "التوازن الطائفي" غير الموجود إلا في ذهنه وذهن شركائه في السلطة السياسية الحاكمة؟
وفي محاولة لقراءة خلفيات المذكرة والتغريدة وما بينهما، أفصح بعض النواب لـ"المدن" أنهم يحضّرون موقفاً ما خلال الأيام المقبلة، حول هذا المسار، وسوف يعلنونه بعد جمع المعطيات. بينما اعتبر آخرون أنه "من المعيب والمخجل متابعة هذا النوع من التفاهات والتعليق عليه".
شطف الدرج
أما النائب زياد حواط فقد قال لـ"المدن": "بمعزل عن كل هذه الأمور، هناك محاولة لتحميل مسؤولية انهيار البلد للمواطن. وكأنه هو من أوصل الأمور إلى ما نحن عليه، بينما المطلوب هو شطف الدرج من الأعلى إلى الأسفل، أي عندما نبدأ نرى من خالف القانون ونهب وسرق من كبار المسؤولين يخضع للمحاسبة والعقاب، نكون فعلاً بدأنا نسير في الاتجاه الصحيح، وما عدا ذلك يبقى لتضييع الوقت وتشتيت الانتباه والأنظار إلى أماكن أخرى".
بدوره النائب الدكتور بلال عبدالله أعلن رفضه لهذا المنطق السائد، بمعزل عن التفاصيل والحيثيات القانونية، وقال لـ"المدن": "إن هذه الأمور لا يجب أن تثار عبر الإعلام. وتهديد وترغيب الموظفين ليست شهادة إيجابية لأي وزير أو للحكومة، فالوزير هو رأس الهرم لوزارته سياسياً، ورئيس الحكومة كذلك هو المسؤول عن الحكومة ككل. ولكن هذا المنطق يوحي وكأن هناك من يذكر بالدولة البوليسية".
وتابع عبدالله:" المطلوب ضبط الإدارة وتطبيق مبدأ المحاسبة والمساءلة. لكن هناك معايير ومقاييس لمساءلة الموظف، ولا يجب أن تثار هذه الأمور في الإعلام، لأن الإثارة الإعلامية لموضوع الموازنة مثلاً هو الذي أثار كل البلبلة القائمة حولها الآن، كذلك هناك حق ديموقراطي للموظفين عبر النقابات يجب حمايته. فنحن ما زلنا نعيش تحت وطأة قانون الموظفين الصادر منذ العام 1959، على الرغم من وجود عدد من اقتراحات التعديل لهذا القانون، لجهة إعطاء الموظفين حقوقهم عبر النقابات".
وأمل النائب عبدالله ألا نفقد الحس الديموقراطي الذي يميز لبنان، عبر هذه المواقف والمحاولات التي ليست في موقعها.
في الخلاصة، يبدو أن الرئيس الحريري والوزير باسيل يتفقان على تحميل المواطنين وخصوصاً الموظفين، مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلد، على الصعيد الاقتصادي والمالي السيء، وينسيان بأن كل موظف فاسد تجرأ على المال العام، كان على الأرجح من أزلامهم وأتباعهم وشركائهم في السلطة.
أكرم حمدان - المدن