بات من المُسلّم به أن النخبة المالية السورية تعرضت لتبدلات بعد الحرب السورية مع صعود شخصيات مالية جديدة ترتبط برموز النظام. لكن الجديد أن تراكم العقوبات الدولية على سوريا، مَنَحَ بيروت دوراً أساسياً كواجهة لأركان هذه الطبقة المالية الجديدة، وأحياناً بالتحالف والشراكة مع سياسيين لبنانيين وأقاربهم، وفقاً لوثائق كشفتها "الشبكة الدولية للصحافيين الاستقصائيين"، وأكدتها مصادر ديبلوماسية أوروبية.
هذه المصادر الأوروبية المعنية بملف العقوبات، تُقسّم النخبة المالية السورية وفقاً لمرجعيتها داخل النظام على الطريقة الآتية: مجموعة رامي وحافظ مخلوف، ماهر الأسد، وأسماء الأخرس. جميعهم يتمتعون بوجود مالي لبناني مُسجّل لدى السلطات هنا، في حين لدى المجموعتين الأولى والثالثة امتدادات خليجية، ويُشتبه في أن للثانية أدواراً أمنية- عسكرية تتجاوز كونها واجهة مالية، بحسب المصادر ذاتها.
أحد أبرز وجوه هذه الشراكة العابرة للحواجز السياسية هو محمد سامر محمد مظهر أفدار. أفدار القريب من حافظ مخلوف منذ أيام الدراسة، هو اليوم مدير عام "وسترن يونيون" في سوريا، واتهم في أول سنوات الثورة بتسليم النظام بيانات كل المحولين الماليين من بلد المصدر، والمتلقين في الداخل السوري. في الشهر السادس من عام 2011، أي بعد 4 شهور على انطلاق الثورة السورية، شارك أفدار مع سياسيين لبنانيين في تأسيس شركة مالية في بيروت اسمها ام - بايمنتس فانتشر هولدنغ ش.م.لM - PAYMENTS VENTURE HOLDING S.A.L.
تُمثل هذه الشركة نموذجاً لهذا التقاطع الصريح بين المال والسياسة، والعابر للانقسامات الداخلية (العلنية على الأقل). رئيس مجلس الإدارة هو النائب في تكتل "التغيير والإصلاح" (التيار العوني) أمل حكمت أبو زيد، وأحد أبرز الشركاء هو عماد صالح المشنوق، شقيق وزير الداخلية الحالي نهاد المشنوق. أبو زيد وابنه يملكان الحصة الأكبر (945 سهماً)، يليهما المحامي توفيق معوض نائب رئيس الرابطة المارونية (405 أسهم)، ومن ثم صُهره عماد المشنوق (270 سهماً، متزوج من جويا توفيق معوض) وأفدار (110 أسهم).
مسؤول أوروبي أبلغ "درج" بأن أفدار، مثله مثل أقطاب شركات الصيرفة في سوريا، على ارتباط بأجهزة الأمن فيها، لا لأسباب مالية بل أيضاً معلوماتية بحتة، إذ تحوي قاعدة بيانات مهمة للمواطنين وأقاربهم في الخارج.
تماماً كأفدار، يملك أبو زيد وتوفيق معوض شركة "OMT" للخدمات والتحويلات المالية (تُقدم خدمات وسترن يونيون) منذ عام 1998، أي في عهد الوصاية السورية. وللشركة امتيازات مالية في لبنان حيث تعمل مثل المصارف بترخيص من البنك المركزي ورقابة منه على الحوالات المالية. ولأبو زيد أيضاً شركة "أوف شور" اسمهاA.N.H GROUP SAL OFF SHORE، أسسها عام 1998 مع معوّض ومواطن بلغاري اسمه بيتر غيورغيف كالباكتشيف. "درج" اقتفت أثر كالباكتشيف عبر مصادر ووسائل اعلام في بلغاريا، فتبين أن اسمه "Petar Georgiev Kalpakchiev"، وهو كان مسؤولاً كبيراً في شركة "كينتكس" البلغارية المُصنّعة للسلاح، وقريباً من تاجر السلاح المعروف ملادن موتافتشسكي المقيم حالياً في لشنشتاين. وكالباكتشيف أيضاً أحد أبرز رموز المحافل الماسونية في بلغاريا، ويملك حالياً شركة استشارية دولية اسمها "كاروني" لها مكاتب في أكثر من دولة.
أبو زيد ممثلاً لموسكو
واللافت في هذا السياق، أن أبو زيد لا يُنظر إليه بصفته لاعباً محلياً يرتبط بشخصيات من النظام، بل يُعتبر امتداداً للنفوذ الروسي المتنامي في المنطقة. فهو على سبيل المثال، يؤسس لعلاقة بين رئيس الجمهورية ميشال عون والكرملين، على أن تُدشن بزيارة رسمية يتخللها توقيع اتفاقات بين البلدين، بحسب وسائل إعلام لبنانية.
وعلاقته مع روسيا قديمة بعض الشيء، ودشّنها بافتتاح مكتب لشركة ADICO، في موسكو عام 2000 بعيد صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سُدّة السلطة. بعدها، ووفقاً لمقابلة صحافية، توسعت أشغال أبو زيد في موسكو حيث بات يعمل على "فتح أسواق جديدة للشركات الروسية العاملة في قطاعي النفط والغاز"، كما جاء على لسانه. ومعلوم أن هذا القطاع غير منفصل عن الرئيس الروسي وحلقته القريبة في عالم الأعمال. في المقابلة عينها، يُقر أبو زيد بأنه وبحكم علاقاته مع الشركات الروسية، "طلبتُ منهم المجيء إلى لبنان والقيام بالدراسات اللازمة وقد لبوا الدعوة مشكورين". ودوره في إطار العلاقات اللبنانية– الروسية "لا ينحصر في مجال النفط والغاز، بل يتعداه إلى الجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية. وكانت لي مساهمة كبيرة في إعادة نسج العلاقات اللبنانية– الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي". الرجل لاعب روسي أساسي في المنطقة، لا لبنان فحسب، وفقاً لمصادر أوروبية مطّلعة.
لذا فإن وجود أبو زيد في شركة واحدة مع شخصيات سياسية لبنانية وأفدار، لا يخلو من مضامين سياسية، لا سيما أن للأخير تاريخاً مالياً في بيروت سابق لهذه الشركة.
في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2004، أي قبل شهور قليلة من انسحاب النظام السوري من لبنان، أسس أفدار أول شركة له في لبنان، باسم "بطاقات ش.م.ل." (شركة محدودة المسؤولية)، BITAKAT S.A.L، إلى جانب صيرفي سوري آخر وسياسي لبناني. لأفدار حصة الأسد في الشركة (649 سهماً)، يليه جاد عدنان كوسا (لبناني- سوري، 349 سهماً) ووضاح حنا الشاعر (سهمان فحسب). الشاعر محام لبناني بارز ومسؤول عن تيار المردة في قضاء البترون، ومرشح الدائم للانتخابات النيابية فيها.
ذاك أن الشركة اللبنانية واجهة لشراكات وعلاقات داخل سوريا، حيث يتشابك الأمن والمال. أفدار وكوسا شريكان لمازن وماهر عبد اللطيف الطباع ولوائل مأمون الطباع ومحمد القصار في شركة "ديار إليكترونيك سيرفزس" المالية في سوريا.
الشراكة ذاتها بالأسماء ذاتهاها قائمة في شركة "أوف شور" لبنانية سُجلت عام 2007 باسم "دي. اي. اس. ش.م.ل. أوف شور" وبالإنكليزية (DES S.A.L. OFF SHORE)، وفيها أيضاً وضاح حنا الشاعر المسؤول في تيار "المردة". ووضاح شريك أيضاً في شركةCrest Oil Services SAL النفطية، وهي مُسجلة عام 2003 كـ"أوف شور" في لبنان، وتضم جميع الأسماء السابقة باستثناء أفدار.
بالأسلوب ذاته، يملك رجل الأعمال السوري عمار مدحت شريف القريب من رامي مخلوف، حصة في المجموعة العالمية للصرافة في سوريا، وله شراكة مالية موازية في لبنان مع رامي مخلوف من خلال شركة "روك انفست" (سُجلت عام 2002، وسبق أن نشر "درج" معلومات عنها).
شبكة ماهر الأسد
تعود الأسماء السابقة إلى رجال أعمال يتحدرون إما من عائلات ثرية أو ميسورة الحال، وهم قريبون من رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، وصاحب أكبر شبكة احتكارات داخل البلاد قبل الحرب.
لكن هناك اليوم شخصيات مالية ثرواتها مستجدة، وعلى ارتباط بماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، ولها انتشار في لبنان عبر شركات "الأوف شور". محمد حمشو النائب الحالي في مجلس الشعب، أحد هؤلاء. والده موظف حكومي، وتربى في عائلة متوسطة الحال تُجاور الفقر. منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، بات قريباً من ماهر الأسد من خلال مدير مكتبه اللواء غسان بلال.
لحمشو وجود عبر ولديه أحمد صابر وعمرو. الأول يملك حصة في شركتي
EBLA TRADE SERVICES S.A.L. OFF SHORE وInternational Services Company S.A.L. OFF SHORE.
من مجموعة ماهر أيضاً هناك رجل الأعمال أحمد سمحا. سمحا كان يملك محلات بينيتون في سوريا، وانتقل من عباءة رامي مخلوف إلى ماهر الأسد بعد خلاف مالي مع الأول. من شركاته في لبنان Samha Group OFF SHORE S.A.L.
ميليشيات وبراميل
أيمن محرز جابر، أيضاً من هذه المجموعة، لا بل أكثر من يُمثل المستفيدين الكبار من الأزمة السورية، ويظهر مع شقيقه محمد في وثائق "بارادايس"، كأصحاب حصص في شركات "أوف شور" لبنانية. بدأ أيمن حياته مُهرّباً في مرفأ اللاذقية حتى "اكتشفه" كامل الأسد وصاهره. نظراً إلى نشاطه في مجال النفط، اتُهم أيمن على نطاق واسع بصنع البراميل المتفجرة للنظام، في حين أسس شقيقه محمد ميليشيات "صقور الصحراء" الموالية للنظام.
واللافت أن لأيمن أكثر من شركة في لبنان أسسها عامي 2009 و2010، وبينها شركة الجزيرة المتحدة للنقل العام وتجارة المشتقات النفطية والخدمات النفطية ش.م.ل. (أوف شور) التي يملك شقيقه محمد، قائد ميليشيات الصقور، حصةً فيها، وأيضاً الشركة العربية للطاقة ش.م.ل. (أوف شور)، والشركة العربية المتحدة للنقل العام وتجارة المشتقات النفطية والخدمات النفطية ش.م.ل. (أوف شور).
المعلومات السابقة تستجدي الأسئلة الآتية: هل تُموّل هذه الميليشيات عبر لبنان، وما دور هذه الشركات في تأمين المواد الضرورية لصناعة براميل النظام؟ بالتأكيد لن يُقدم السياسيون اللبنانيون "الشركاء" أي إجابات عن هذه الأسئلة.
المصدر: درج