تشكل العائلة وطناً مصغراً، وأفرادها من أب وأم وأبناء هم المواطنون. فعندما نملك ثقافة التعاطي في هذه الدائرة الصغيرة، عندما نربّي أبناءنا على مبدأ الواجبات والحقوق، على تقبّل الآخر ونقاط ضعفه وقوته، عندما نقوّي أواصر إرادتنا في الحفاظ على عائلتنا وحمايتها، حينها يحقّ لنا أن نحلم بالوطن.
ألا نحتاج لنجاح العلاقات العائلية إلى الحوار والإحترام المتبادل؟ أليس تقبّل رأي الآخر واختلافه أساساً للتفاهم؟ ماذا عن الإتّحاد والدعم والإبتعاد عن الأنانية والتفرّد بالرأي؟ ألا يحتاج كل واحد من أفراد العائلة إلى تنمية حسّ المسؤولية وإلى التعاطي بإيجابية بعيداً من الإنتقاد اللاذع والإستفزاز؟ ألا ينصح الإختصاصيون بالإبتعاد عن التمييز والتفريق بين الإخوة؟
يتكون الوطن من مجموع العائلات فيه، مني ومنكم، من أقاربنا وأصدقائنا والجيران… نحن الوطن.
عندما نربّي أبناءنا على الأنظمة والمبادئ والقيَم نكون نؤسّس لمجتمع أفضل، وبالتالي يكون التفلّت من القواعد والقوانين أمراً نناقشه بوضوح وإيجابية، لكن وللأسف أصبح التدليل والإهمال سيد الموقف، فيعتبر الأهل بأنه يحق لأبنائهم بأن يعيشوا الفوضى: «لاحقين عالهموم والعذاب»، جاهلين أهمية مرحلة التنشئة على الأصول، ووضع الضوابط الإجتماعية، احترام الأنظمة، الإنتماء والإستقرار والسلام الداخلي.
عن أيّ وطن نتكلم في حين نخجل من أن يتكلم أطفالنا اللغة العربية، ونتسابق في التباهي بذلك، فلو قمنا بجولة على المدارس لصعقنا بانحدار مستوى علامات أبنائنا في لغتهم الأم، أوليس إتقانها دليلاً على الإنتماء للوطن؟ ونتساءل عن تزلّم بعض السياسيين والمسؤولين لسياسات الدول الأخرى.
التباهي واحتقار الآخر
كي يتمتع أولادنا بالعمق والتوازن والمنطق علينا إبعادهم عن المظاهر الخارجية، فلا نكون المثل بالتعاطي مع الآخر على أساس ما يملك. إننا بذلك نبتعد عن الأشخاص المثقفين والمفكرين وأصحاب القيَم والمبادئ، لا بل نهمل هذه الناحية في الناس، مركّزين على الثروات والسيارات والمجوهرات؛ وليس بالضرورة أن يكون الأثرياء أشخاصاً لا يتمتعون بهذه المزايا، إنما نعني تركيز الأكثرية على القدرات المالية للأفراد وليس الإنسانية والثقافية والأخلاقية، وبالطبع قد يلتقي الإثنان في شخص واحد.
وقد يصاب أبناؤنا بالغرور على غرارنا، فيحتقرون رفاقاً لهم ويتعاطون معهم بفوقية، ويقتصر عالمهم على دائرة ونشاطات معيّنة قد تصيبهم بالفراغ الداخلي وتحرمهم من البساطة والعيش بعفوية.
وما الرشوة التي تضرب الإدارات والمؤسسات العامة إلّا نتائج الترف والمظاهر الخارجية الفارغة التي يتربّى عليها الأبناء فيتقنوها مستقبلاً، في الوظائف المتواضعة وتكبر معهم شيئاً فشيئاً وصولاً إلى أعلى المراكز في الدولة.
أما حكاية العاملات الأجنبيات في المنازل فلها أوجه عدة من الأذيّة على أفراد العائلة، فهي تحلّ مكان الأم في تقديم الطعام للأبناء، ومكان الزوجة للزوج، هذا عدا عن طريقة التعاطي معهن، إذ في احتقارهن والتسلط عليهن تعدّ على الإنسانية، وفي إعطائهن تلك السلطة المفرطة في المنزل نسلّم لهنّ مراكزنا كزوجات وأمهات، ونتساءل عن أسباب المشكلات والإضطرابات التي يتسبّبن بها في العائلة.
ويظهر الهروب من المسؤولية والإلتزام من خلال غياب الرقابة والحضور الفعال للوالدين بحجة الإنشغال والعمل الكثير لتغطية الحاجات بين أستاذ وسائق وعاملة منزلية وطعام جاهز ووو… ماذا لو قصّرنا مدة غيابنا عن عائلاتنا وقمنا ببعض هذه الأمور التي ندفع للحصول عليها أكثر ممّا نتقاضى أثناء غيابنا وهروبنا من لعب دور الأهل بمسؤولية.
ونشتكي من تزايد الإضطرابات والمشكلات النفسية للأبناء، دون أن نطلب العلاج، فلا نكتفي ببقائهم لساعات طويلة أمام شاشات التلفزة، وتعرّضهم السلبي لوسائل التواصل الإجتماعي، وإدمانهم على الألعاب الإلكترونية أثناء غيابنا الطويل عنهم، بل نعود إلى البيت متعبين مرهقين، طالبين الراحة والهدوء، والتسلية مع الأصدقاء والأقارب على وسائل التواصل الإجتماعي، وعلى الوقت النوعي في العائلة السلام!
ونسأل: لماذا نفقد الإحترام المتبادل في العائلات؟ لماذا نخسر المحبة والودّ شيئاً فشيئاً؟ لماذا تتزايد حالات قلة التركيز وفرط الحركة؟ الإدمان؟ العنف؟ الإكتئاب؟ القلق والتوتر والخوف؟ ليدخل كل منا بموضوعية وواقعية إلى بيته، لنراقب علاقاتنا العائلية، لنحتسب مدة الجودة في العلاقة مع أفراد العائلة فنرى بتجرد أسباب ذلك.
إذا كنا فعلاً نريد وطناً سيداً علينا أن نربي أبناءنا على الإستقلالية، على تقدير الذات، على احترام الآخر، على تقبّل الجميع من حولهم، على الحوار والإصغاء، علينا أن نُشعرهم بالإنتماء للعائلة ليكبر معهم انتماؤهم فيشمل الوطن.