كان على الكثيرين، البارحة، أن يحزروا ما عنته كلمة الرئيس سعد الحريري في ذكرى 14 شباط: هل يريد أن يكون رفيق الحريري الثاني، أم سعد الحريري الرابع. سعد الأول يوم ترأّس حكومته الأولى عام 2009، وسعد الثاني عندما عبر صحراءه إبان حكومتي الرئيسين نجيب ميقاتي وتمام سلام مرة في المعارضة ومرة في الموالاة وفي الاثنتين خارج السرايا، وسعد الثالث عندما أيّد عدو الأمس - وبينهما ما بينهما - الرئيس ميشال عون لرئاسة الجمهورية.
في كلمته في ذكرى اغتيال والده الرئيس الراحل رفيق الحريري، كان في الإمكان العثور على شخص جديد رابع هو خليط الثلاثة معاً: الذي تذكّر رفاق 14 آذار، والذي أعاد نبش النزاع المزمن مع عون، والذي يريد أن يبدأ من جديد لكن مع الذين رافقوه في الماضي - ما خلا عون وحزبه - شركائه في مسؤولية ما آلت اليه البلاد.
هكذا توخى في كلمته: دافع عن حقبة الحريري الأب وبرّأها من كل ما حدث في ما بعد، من دون أن يذكر العدالة والمحكمة الدولية. تجنب المرور بحكومة خلفه الرئيس حسان دياب فلم يهاجمه، ولم يظهر نفسه معارضاً شرساً له، كما بدا في مرحلة التكليف، مقدار ما فعل مع رئيس الجمهورية كأن المشكلة ليست معه بل مع عون فقط. راعى الثنائي الشيعي عندما ميّز حزب الله اللبناني عن ذاك الإقليمي في معرض تطرقه إلى مناوأته إيران، واصطفافه هو في الخيارات العربية، كأنما حزب الله فقط هو إيران. تقاسم مع الشريط الوثائقي الذي سبق كلمته توزيع الاتهامات: الأول حمّل مشكلة الكهرباء وضرب مشروع الحريري الأب للرئيس إميل لحود وعهده، بينما تولى هو التصويب على الرئيس ميشال عون وعهده.
بيد أن الحريري الابن الرابع، بعدما تدحرجت السلسلة، ليس الأخير. لم يقل، وقد يصعب قبل مرور بعض الوقت خارج السرايا وفي المعارضة أو خارجها، مع الحلفاء أو من دونهم، كيف سيكون هذا الرابع؟
مع ذلك، ثمة ما هو مهم يمكن ملاحظته:
أوله، مع أن السفير السعودي وليد البخاري أُجلِسَ في الصف الثاني وهو يمثل مليكه، وكذلك السفيرين الأميركي والمصري، بينما اصطف في المقدمة نواب سابقون ووزراء سابقون وأهل البيت وسواهم، ومع أنه أتى خلافاً للمعتاد على ذكر مصر قبل السعودية - وقد تكون زلة لسان في الغالب ليست بلا دلالة مضمرة - إلا أن الحريري عرّج أكثر من مرة على المملكة ودول الخليج العربي، سواء في كلامه عن الخيارات العربية وانحيازه إليها، أم في الدور الاقتصادي لها في معالجة الأزمة الخانقة.
في السياق نفسه وجّه أكثر من رسالة إيجابية إلى الرياض حيال تأكيد تحالفه مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وتفادي انتقاد رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وكلاهما حليف للمملكة، ما عنى ضمناً عدم تخليه عن رفيقي 14 آذار.
أفرط في مديح علاقته بجنبلاط، في وقت لا يزال الغموض والالتباس يحوطان بعلاقته بجعجع فلم يمدحه لكنه لم يهجه، مع أن الحزبين شاركا في الذكرى وإن بتمثيل متفاوت. لم يتردد الحريري في ذكرى 14 شباط 2016 في انتقاد جعجع، في حضوره، على إبرامه اتفاق معراب لشهر خلا في 18 كانون الثاني، وخاطبه من على منبر "بيال" قائلاً: إن اتفاقاً كهذا بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية لو أبرم قبل سنوات لوفّر الكثير على اللبنانيين. سرعان ما انضم الحريري متأخراً إلى روح اتفاق معراب - وإن على طريقته - عندما أيّد انتخاب عون رئيساً للجمهورية في 20 تشرين الأول 2016. بدأ يعيد ترتيب أوراق اعتماد جديدة لدى المملكة باستعادة الحلفاء، والتخلص من تسوية 2016، والإشارة إلى أنه تغيّر وعاد إلى المقلب الذي يُرضيها.
ثانيه، تحدث بعنف موصوف عن "رئيس الظل" جبران باسيل لتحميله مسؤولية انهيار تسوية 2016 التي أعلن خروجه النهائي منها، مع أنه يعرف أن "رئيس الظل" لم يهبط عليه فجأة أخيراً. عندما دار تفاوضه مع باسيل سراً طوال ستة أشهر انتهت في تشرين الأول 2016 في باريس، بشراكة ابن عمته نادر الحريري ووساطة رجل الأعمال جيلبير شاغوري إلى حين تكريس الاتفاق، ولم يُكتشف التفاوض السري إلا بالمصادفة بعدما ظل غامضاً على تيار المستقبل، وافتضحت في الفندق الباريسي جلسات العمل الليلية... لم يكن الحريري يجهل حينذاك أن صهر عون هو مفاوضه الوحيد، وهو الذي أبرم معه كل مقوّمات المقايضة: قصر بعبدا في مقابل السرايا طوال سني الولاية، ثم المحاصصة وكل ما تبع. لم يكن سراً على الحريري أن باسيل هو الرجل القوي في عهد عمّه. عندما تألفت حكومة 2016 كانا شريكي التأليف، وكذلك حكومة 2019، وبينهما قانون الانتخاب والتعيينات والمناقلات وقسمة جبنة الإدارة والأسلاك والسفارات والمناصب والمصالح المتقاطعة.