محمد يوسف زريق
يحتفل اللبنانيون في كل عام بعيد الاستقلال، اليوم الذي أصبح فيه هذا الوطن غير تابع بالظاهر، والذي أصبحت فيه السلطة الفعلية بيد الدولة اللبنانية وليس بيد سلطات الانتداب.
ولكن لقصة الانتداب والتبعية تتمّة، فالتاريخ اللبناني المعاصر حافل بالاضطرابات والأزمات والمشاكل، فالشعب اللبناني المقسَّم بفعل المذاهب والأحزاب والتيارات السياسية راح يستجدي تعاطف الدول الخارجية الغريبة من أجل الوقوف إلى جانبه أيام الشدّة ودعمه عسكرياً ومالياً وسياسياً، هذه التعبئة والتبعية الخارجية المتواصلة والمكثّفة أفرزت حرب أهلية عام 1975 وقسمت الساحة اللبنانية ما بين قوى الحركة الوطنية اللبنانية وقوى الجبهة اللبنانية، وفي تلك الفترة فإن لبنان الذي كان يعتبر لؤلؤة العالم وسويسرا الشرق أصبح ركاماً وجثث أبرياء، وقد امتلأت الساحات بمخلفات الأسلحة الشرقية والغربية التي أطلقتها أيدٍ لبنانية خدمت مصالح خارجية.
إنَّ الحقائق والخفايا تكمن في التاريخ، ولكي نعلم الحاضر يجب أن يكون لدى الشخص إلمام بتاريخه؛ لأنَّ التاريخ لا يتغير ولا يخون أبداً.
بحسب اعتقاد جهابذة الفكر وأصحاب العقول الرصينة، فإنها كانت غيمة سوداء فوق السماء اللبنانية والظرف المحتدم الذي مرَّ به العالم أجبر لبنان على الانقسام الداخلي، أما اليوم وبعد أن استعاد لبنان حريته المسلوبة، وبعد خروج الاحتلالات عن أراضيه، وبعد أن بات في هذا البلد الرئيس القوي الذي طالما انتظره اللبنانيون، يقول قائل: إن لبنان اليوم عاد أرضاً للحرية وللكرامة، ولكن البعض الآخر يرى أن الوضع يزداد سوءاً والبلد يزداد انقساماً، والنفايات تتكدس، والتوافق أصبح صعب المنال.
فما هو تعريف هذه الحرية التي تنشدونها وتتغنون بها والإعلام اللبناني أصبح أسير الأهواء والرغبات السياسية؟ أليس الإعلام هو وجهاً من وجوه الديمقراطية وحريته يجب أن تكون مصونة ومقدَّسة في بلد الحريات؟ عندما تفتعل العراقيل بوجه عميد الإعلام اللبناني "الأستاذ مارسيل غانم" وبوجه صوت الشباب اللبناني "الأستاذ هشام حداد"، فلنعلم جيداً أنَّ الإعلام اللبناني ليس على ما يرام والحرية أصبحت منتقصة؛ لأن الإعلامي اليوم يجب أن يحسب ألف حساب قبل النطق بكلماته.
يا سادة دعوهم وشأنهم.. دعوا الإعلام اللبناني بعيداً عن خلافاتكم وتصفية حساباتكم السياسية.
إنَّ أسمى الشرع الإنسانية وأعني بذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد نصَّت مادته 19 على أنَّ حرية التعبير هي حق إنساني أساسي يعزز الحقوق الأخرى بما فيها حق الحياة، ولا تعتبر هذه الحرية من الكماليات.
وبما أنَّ لبنان هو عضو في الأمم لمتحدة ومؤسس لهذه المنظمة، عليه أن يحترم هذه المادة ويطبقها، فحرية التعبير عن الرأي يجب ألا تمس.
ولطالما شجعت المنظمة الدول النامية على تكريس حرية التعبير عن الرأي من خلال نبذها الرقابة المسبقة (ما عدا بعض الحالات الاستثنائية)، وبدعمها استقلالية الإعلام وعدم تدخل الحكومات بأموره أو محاولة التحكم بالتوجه التحريري أو الإداري.
إنَّ المرسوم رقم 7276 الصادر في 7 أغسطس/آب 1961 ينظم وزارة الإعلام التي تعمل بالممكن والمتوافر، مع الشكر على الجهود التي يقوم بها وزير الإعلام الحالي الأستاذ ملحم رياشي.
وقد صدرت مراسيم أخرى منذ عام 1961 لإعادة تنظيم الوزارة وشروط التعيين والملاك، إلا أنها ما زالت بحاجة إلى الكثير من التطوير والعمل البنّاء.
تجدر الإشارة إلى أنَّ القانون رقم 353 الصادر في 28 يوليو/تموز 1994 المتعلق بالبث التلفزيوني والإذاعي ينص في المادة 2 و3 على الالتزام بحرية وديمقراطية النشاط الإعلامي ودوره خاصة في تأمين التعبير عن مختلف الآراء، ولكنَّ المفارقة الحاصلة أنّ القانون ذاته يحظر في المادة 4 "عدم التزام الموضوعية في البرامج الإخبارية وعدم إعطاء الحدث والخبر بماهيته".
أما بالنسبة للاستقلال وللحرية الإعلامية الظاهرية في لبنان، فتجدر الإشارة إلى أنَّه يتم تصنيف المؤسسات المرئية والمسموعة حسب القانون رقم 382 الصادر في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1994 إلى أربع فئات، ويحدد البرامج الإخبارية والسياسية في الفئة الأولى فقط بينما تبث الفئات الثلاث الأخرى كافة أنواع البرامج ما عدا السياسية والإخبارية منها.
إنَّ السياسة اللبنانية هي تؤام أو أكسيجين الإعلام اللبناني، فلا سياسة وتعبئة من دون إعلام كهذه، ففي العام 1996 أعطيت تراخيص لأربع مؤسسات تلفزيونية ورفضت لمحطات أخرى، وقد قال المدير العام لوزارة الإعلام آنذاك الأستاذ محمد عبيد في مقابلة مع جريدة الـ"Washington Post": إن الاختيار هذا يكمن وراءه "قرار سياسي".
أما بالنسبة لمنع النقل المباشر لتجمعات سياسية غير مرخص بها ولبعض المناسبات الدينية، كما ورد في الفصل الثالث من المرسوم رقم 7997 الصادر في 29 فبراير/شباط 1996، فهو يتعارض مع المفاهيم والمعايير الدولية للتعددية الإعلامية وحرية الرأي والتعبير، ومن شأنها القضاء على التنوع الإخباري والفكري.
أما بالنسبة لقانون البث الفضائي رقم 531 الصادر في 24 يوليو/تموز 1996 الذي يتضمن تصنيفات وممنوعات مثل الأخبار والبرامج السياسية المباشرة وغير المباشرة التي تتطلب ترخيصاً من مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الإعلام، والبرامج التي من شأنها الإخلال بالنظام العام أو المضرة بسلامة الدولة أو بحسن علاقاتها مع البلدان العربية أو الأجنبية الصديقة أو البرامج التي تؤثر على سلامة أمن تلك البلدان والتي تعتبر مرفوضة.
إنَّ القوانين اللبنانية التي تنظم مهنة الصحافة ودور الصحفي وتضع الأطر لوسائل الإعلام، من الجيد إعادة النظر بها وإعادة الحرية الكافية للصحافة اللبنانية، بعيداً عن الفوضى والتجاذبات السياسية.
فالحرية لا تعني مراعاة مشاعر الغير؛ لأنها تصبح استرضاء للغير، الحرية تعني قول كلمة الحق، وأن يكون الإعلام هو صوت المواطن لا صوت السياسي أو الجماعة السياسية، داخلية كانت أم خارجية.
إلى فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، حبّذا لو وضعتم في عهدكم بصمة ذهبية نادرة على صدر الصحافة اللبنانية بكفّ الأيدي عن هذه المهنة، وإعطاء هامش أكبر للحريات، فالصحافة هي مرآة لمدى نسبة الحرية في بلدٍ ما، فلنجعل للبنان صحافة تليق بهذا البلد الذي خرَّج المبدعين والفلاسفة والعباقرة، لبنان الذي غزا العالم سلمياً، وكان من أول المدافعين عن الحريات يستحق صحافة تليق به وبتاريخه.
المصدر: هافينغتون بوست عربي