ترامب ومسرحيّة الخطاب الرئاسي

ترامب ومسرحيّة الخطاب الرئاسي
ترامب ومسرحيّة الخطاب الرئاسي

وائل السواح

جي سيونغ معارض لنظام ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون، يعمل من كوريا الجنوبية منذ سنوات من أجل تنبيه العالم إلى انتهاكات حقوق الإنسان في كوريا الشمالية والدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. لكن كي يصل إلى كوريا الجنوبية كان عليه أن يقطع رحلة هائلة من آلاف الأميال وعلى عكازتين، لأنه كان قد فقد إحدى رجليه تحت عجلات قطار مرّ فوقه وهو يسرق بعض الفحم ليبيعه مقابل الغذاء. الأطباء أجروا له عملية البتر من دون مخدر، وبعد سنوات حين عبر الحدود إلى الصين بحثاً عن الدواء وعاد إلى بلاده، اعتُقل وعُذب تعذيباً شديداً لأنه شوّه سمعة كوريا الشمالية بإعاقته.

أمّ جي وإخوته وخالته كلهم هربوا من قمع عائلة كيم وساديّتها. أبوه لم يستطع، فقد قُتل على يد النظام على رغم كونه عضواً في الحزب الحاكم.

هي مأساة بحق. الرئيس ترامب استفاد منها في خطاب حال الاتحاد الثلثاء الماضي، عندما دعا جي لحضور الخطاب، وأشاد به وبنضاله واعتبره رمزاً للصراع ضدّ ديكتاتورية نظام كيم الكريه. كلّ حرف قاله الرئيس ترامب كان صحيحاً. لكن نصف الحقيقة غالباً لا يكفي. وكيم جونغ أون ليس الديكتاتور الوحيد في العالم.

في خطابه، لم يذكر ترامب ولا مرّة عابرة نظام القتل والتدمير في دمشق، ولم يشر ولو من بعيد إلى طاغية دمشق بشار الأسد، ولم يذكر مأساة السوريين الذين يموتون يومياً على يد بشار الأسد وحلفائه. ببساطة، اختصر ترامب المأساة السورية إلى حدود «داعش»، وصوّر نهاية دولة الخلافة في سورية كانتهاء للأزمة السورية وانتصار شخصي له.

كان في إمكان الرئيس ترامب أن يدعو الطبيب السوري حسن الحريري، الذي قتل سبعة من أولاده في آب (أغسطس) 2014، إثر قصف منزله في بلدة بصر الحرير، شرق درعا، ببرميلين متفجرين وصاروخ موجه، بينما نجا طفله الثامن (منصور)، الذي كان يبلغ من العمر حينها ثلاثة أشهر. بيد أن ترامب لم يستطع، لأن الرجل نفسه قتل في غارة من الطيران الحربي على درعا البلد في آذار (مارس) الماضي، وبقي منصور وحيداً.

كان في إمكانه أن يدعو عبدالحميد اليوسف الذي دفن بيديه زوجته وطفليه وأخويه وزوجتيهما، الذين قتلوا في الهجوم الكيماوي الذي نفذه طيران الأسد على بلدة خان شيخون العام الماضي.

كان في إمكانه أن يدعو أحد الناجين من رحلات السوريين بالقوارب البدائية نحو الأمن والسلام في أوروبا، أو أحد اللاجئين الذين استقبلهم جاره الشمالي جستن ترودو، بل حتى سلفه في البيت الأبيض باراك أوباما. لدى السوريين قائمة طويلة جداً من الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبتها قوات الأسد وبوتين وخامنئي، لو أنه اهتم بأن يسأل.

ليس المقصود التقليل من حجم الكارثة التي يعيشها الكوريون الشماليون في ظل واحد من أسوأ أنظمة القمع في التاريخ. لكن في الخطاب السنوي للرئيس الأميركي، يتوقع المرء أن يسمع استعراضاً لدور الإدارة الأميركية في السياسة الداخلية والخارجية، وفي شكل متوازن وإيجابي.

ما قدّمه الرئيس ترامب في خطابه كان عكس ذلك تماماً. لم يتعرض لدور بلاده في ليبيا واليمن وسورية، ولامس، من دون أن يفصّل، موقفه من الاتفاق النووي مع إيران ودور إيران التوسعي في المنطقة، وتهرّب في شكل كامل من الخوض في المسألة الروسية والتحقيق الذي يجريه المحقق الخاص روبرت مولر في احتمال تواطؤ بين حملته الانتخابية عام 2016 والحكومة الروسية، كما تجنّب الخوض في قضايا المناخ والاحتباس الحراري الذي يوجه أكبر خطر اليوم للمعمورة بأسرها.

بدلاً من ذلك، استخدم الرئيس لغة التخويف والتهديد. التخويف، كما في قضيّة الهجرة. لقد عارض ترامب بقوة كل أشكال الهجرة غير الشرعية، وأيضاً جزءاً من الهجرة الشرعية. وهو يريد اليوم أن يمنع الأميركيين من لمّ شمل أسرهم واستدعاء أهلهم المباشرين في ما أسماه «الهجرة المتسلسلة». ولكي يخيف الأميركيين ساوى بكل بساطة بين المهاجرين والمجرمين، فكل مهاجر بالنسبة إليه مشروع مجرم يأتي إلى أميركا لينضم إلى عصابة الـ م.س. 13، فيسرق ويقتل ويهرّب المخدرات.

والتهديد كما في حالة الدول التي عارضت قراره المتهور بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في الأمم المتحدة، عندما هددها بقطع المعونات عنها، وأيضاً حين هدد بأنه سيبقي معتقل غوانتانامو السيئ السمعة مفتوحاً، بعد أن فشل سلفه في إغلاقه.

خطاب حال الاتحاد الأول للرئيس ترامب كان مسرحية سيئة الإخراج. ولقد حاول الرجل أن يتصرف في شكل «رئاسي» فبدا كارتونياً وهو ينفخ أوداجه كلما قاطعه الجمهوريون (بعد كل جملة تقريباً) بالتصفيق الحاد والوقوف على الأقدام. وقد أرادنا أن نصدق أنه يريد حقّا أن يوحّد الأميركيين المنقسمين في شكل لم يسبق له مثيل منذ الحرب الأهلية ربّما.

ولكن، لكي نصدّق الرئيس ترامب، يتعيّن علينا أن ننسى كل خطاباته ومواقفه العنصرية المحابية للفاشيين والقوميين المتطرفين، المعادية للسود والمكسيكيين والملونين والمسلمين والنساء. يتعين علينا أن ننسى خطابه حول أحداث مدينة تشـــارلتسفيل العنصرية في العام الماضي، عندما ألقى باللوم على الفاشيين ومناهضيهم على حدّ سواء، وكذلك تصريحاته قبل أسابيع عن بلاد «حفر القذارة» التي قصد بها دول أفريقيا وبعض دول آسيا وأميركا اللاتينية. سيتعين علينا أن ننسى سعيه الدؤوب الى حرمان عشرين مليون أميركي من الضمان الصحي وعداءه المستدام للبيئة. بيد أن ذلك ليس بالأمر السهل، بخاصة أن الرئيس يذكرنا به في كل يوم تقريباً.

المصدر: الحياة

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى أميركا للبنان: أعلنوا وقف إطلاق النار من جانب واحد!