تراجيديا عون الطويلة: من حروب الرئاسة إلى تحريض الأقليات

تراجيديا عون الطويلة: من حروب الرئاسة إلى تحريض الأقليات
تراجيديا عون الطويلة: من حروب الرئاسة إلى تحريض الأقليات

يوم غادر الجنرال ميشال عون قصر بعبدا في 13 تشرين 1990، كان جزءاً من حلمه ينهار، بعد خوضه حربي الإلغاء والتحرير. لم تكن قراءة الرجل تخلص إلى احتمال وجود قرار سوري وعربي ودولي بالحسم. قبلاً، خاض معاركه في الشرقية بالجيش اللبناني على القوات اللبنانية، متوهماً أنه بذلك يكون الطرف الوحيد المخول إبرام اتفاقات وفرض الشروط. كما الوصول إلى الرئاسة.. وباتفاق مع حافظ الأسد والولايات المتحدة معاً. خاب ظنه، فأشعل "حرب التحرير" البائسة.

عون بين زمنين
في مئوية لبنان الكبير العام 2019، يجلس عون في قصر بعبدا، بذاكرة مثقلة بالتجارب والاختبارات والأحلام المؤجلة التي حان وقت تحقيقها. نظرة عون في 2019 هي إياها نظرته في 1990، مستمداً ذلك من تلاقٍ على مبدأ تحالف الأقليات وحماية الدور المسيحي في الشرق. 

تلك النظرة قام على أساسها في العام 1976 التحالف الموقت والعابر بين النظام السوري والجبهة اللبنانية ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية. وكانت كامنة فيها فكرة حماية الأقليات.
وهذا ما سمح للإسرائيليين بالدخول إلى لبنان، بموجب اتفاقية الخط الأحمر بين الأسد وهنري كيسنجر. كان ذلك التحالف ضمناً علوياً - مسيحياً، يحظى بضوء أخضر أميركي لمواجهة منظمة التحرير الفلسطينية، وضرب الحركة الوطنية الذي تُرجم باغتيال كمال جنبلاط. لكن هذا التحالف تعرّض لنكسات متعددة، أبرزها تداعيات اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل التي أعادت ترتيب الوضع العربي بطريقة مختلفة: خرجت مصر من الدائرة العربية، فتغيرت المعادلة واستقطبت الولايات المتحدة الأميركية مصر، فيما اكتمل استقطاب الاتحاد السوفييتي للنظام السوري، ودعمه الفلسطينيين وبروز معادلة الصمود والتصدي لدى حافظ الأسد. وهنا حصل الافتراق بين الجبهة اللبنانية والنظام السوري، ودارت المعارك في زحلة (المحاصرة) والأشرفية (حرب المئة يوم). ومع اجتياح العام 1982، جاء القرار الاستراتيجي بإخراج منظمة التحرير من لبنان. لم تفعل سوريا الأسد شيئاً في مواجهة هذا القرار، بل وعد الأسد نفسه (بعد مجازره في حماة) وحروبه مع عرفات، بتعزيز دوره لاحقاً، وفوزه بدور منظمة التحرير في لبنان ووراثته. كما كانت لحظة تجلي التحالف بين الأسد وإيران وولادة حزب الله.

هذا ظهر عندما أنجز النظام السوري "الاتفاق الثلاثي"، فتقاطعت مصالح عون والقوات اللبنانية للإطاحة بهذا الاتفاق. إذ كان عون يعتبر نفسه الطرف الأقوى شرعياً في الشرقية، وهو المخول بعقد الاتفاق مع السوريين، وليس إيلي حبيقة.

لم يكن طموح عون الرئاسي خافياً في حينها. كان على علاقة بالسوريين. ولكن حرب الكويت غيّرت المعطيات. ففاز الأسد مجدداً بتثبيت نفوذه كاملاً في لبنان، وصار صاحب القرار الأساسي فيه، وصولاً إلى الوصاية الأحادية عليه. هذا حتّم حاجة السوريين إلى شخصيات ولائها مطلق لسوريا الأسد. وهنا اصطدم حلم عون الرئاسي بالنظام السوري.

عود على بدء
في فترة حروب "الشرقية" التي خاضها عون باسم الشرعية، تارة ضد القوات وتارة أخرى ضد الجيش السوري، كانت غايته أن يكون هو الطرف المسيحي الأقوى والناطق باسم الشرقية والشرعية، لتكريس نفسه ليس عدواً بل حاجة وضرورة للأسد. لكن حسابات عون فشلت، وحصلت العملية العسكرية التي أدت إلى نفيه، فيما كان يراهن على امتلاكه قرار الشرقية والشرعية، لفرض نفسه شريكاً للنظام السوري في حكم لبنان، وفق معادلة العام 1976 إياها، أي التناغم السوري مع "الجبهة اللبنانية"، وفي إطار مستجد: استعادة واشنطن للنظام في سوريا جراء انهيار الاتحاد السوفييتي 1990. هذه الفكرة في عمقها ومضمونها، كانت أيضاً تجديداً لإعادة استيلاد تحالف الأقليات. لكن اتفاق أوسلو وما رافقه مع تحولات، وصولاً إلى منح دور بارز للعرب، ولا سيما المملكة العربية السعودية، أدت إلى تعطيل نسبي وموقت لمفاعيل ذلك التحالف المحتمل، بسبب اتفاق الطائف.

وعليه، لا يُستغرب موقف وزير الخارجية جبران باسيل في الجامعة العربية الداعي إلى إستعادة سوريا لمقعدها، وعقد قمّة مخصصة بشأنها، لأن أسباب 13 تشرين تبددت، وتحققت الطموحات التي كانت تقف خلف إعلان عون حرب التحرير. محطات الـ 1976، والـ1990، وصولاً إلى 2016 و2019، لا تفارق نظرة عون المستقبلية، في طموحه لدخول التاريخ من بوابات جديدة: الرئيس المسيحي القوي، معبود المسيحيين ومُعيدهم إلى لبنان والشرق، والنموذج الموفر لحمايتهم، وجاعل لبنان أرض الحوار بين الحضارات، ومؤسس أكاديمية الإنسان لهذه الغاية، التي تنطلق وتتفعل في اللقاء المشرقي الذي يرعى عون انعقاده في بيروت.

قبل سنتين شدد عون على وجوب استكمال مسيرته، ووصول رئيس للجمهورية من بعده قادر على حمل أمانته وأفكاره. ويكاد بهذا المعنى أن يسمي رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، المتمسك بتحالفات عون ذاتها، وبأفكاره نفسها. وهو أحد أبرز مؤسسي اللقاء المشرقي في لبنان، والعاملين على وضع برنامجه وتوجيه الدعوات إلى شخصيات وقوى من ملل ونحل مختلفة للمشاركة فيه، تحت عنوان حماية الأقليات ودورها في الشرق.
اللقاء هدفه استراتيجي لباسيل، وهو توسيع لمروحة نشاطه وتأثيره وحواضنه، وفتح الباب واسعاً أمامه إلى اللوبيات الدولية المؤثرة.

معايير مزدوجة
ينطوي اللقاء أيضاً على نوع من ازدواجية المعايير: ادعاء حماية الأقليات وأدوارها، يصطدم بموقف داعم للنظام السوري ضد الكرد وحلمهم بكيان مستقل. لكنه من وجه آخر يلتقي مع الكرد ضد التدخل التركي. هذه الازدواجية نفسها تبرز في موقف باسيل من عدم وجود خلاف أيديولوجي مع إسرائيل أو حقها بالعيش بسلام، مقابل موقفه الداعم لحزب الله، صاحب الخلاف الأيديولوجي مع الكيان الصهيوني.

يمثل اللقاء المشرقي ثمرة طموحات عون، المستمدة تجلياتها المتأخرة من ثابتتين تاريخيتين: العداء للأتراك ورثة السلطنة العثمانية، والاستقلال عن العرب ضمن رؤية نشوء لبنان ذي الوجه العربي، والدخول في مشاريع على حسابهم. وذلك بالتحالف مع إيران وروسيا، والبحث عن السلام في سياق تحولات جيواستراتيجية كبرى تفجرت في السنوات الأخيرة وكانت سوريا مسرحها الأساسي، وأدت إلى فوز عون بالرئاسة وفاءاً لمواقفه تجاه الأسد والإيرانيين معاً. لكن من دون تخليه عن الغرب الذي يدغدغه منطق السلام وحماية الأقليات، التي تكون إيران وحزب الله صاحبي الدور الأبرز في حمايتها، ورسم المنطقة ديموغرافياً وسياسياً بالشكل الذي رسمت فيه، على أبواب مساع لعقد حوار إيراني سعودي، وتكون إيران صاحبة الأوراق الأقوى فيه. بينما تتحول أقصى طموحات العرب إلى الحفاظ على الأنظمة والاستقرار داخل حدودهم.

هذا المسار لا ينفصل عن التقاء بين العرب والإيرانيين لإعادة تعويم النظام السوري، بعد سحق المعارضة السورية ومنعها من التأثير بمجريات الحكم في سوريا. وهو مسار لا ينفصل عن التقاء دولي وإقليمي على تحجيم دور أي قوة قادرة على التعبير عن "رأي الأكثرية"، كحال التقاء الأنظمة العربية مع النظام السوري على مواجهة تركيا، بينما لم يكن هناك التقاء عربي حقيقي لمواجهة التدخل الإيراني أو الروسي في سوريا. 

منير الربيع - المدن

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى