لبنان على شفير انقسام حاد. انقسام يتخطى السياسة وحساباتها وتوافقاتها، ويطال الفئات الاجتماعية والشعبية. الفرز المرتقب، سيكون دافعه الأساسي هو ممارسات عديدة تقوم بها السلطة القوية أو "العهد" وبعض المحسوبين عليه. وبمعزل عن الحسابات السياسية للقوى المعترضة على ممارسات العهد، فإن جمهور هذه القوى لن يكون قادراً على التحمّل أكثر. الحنق سيدفعه إلى الانفلات من ضوابطه التي يرسمها زعماؤه. لأن تلك الممارسات تتخطى الصراع السياسي على الصلاحيات واكتساب نقاط القوة، لتطال اللبنانيين بآرائهم واعتراضاتهم وتعبيرهم، الذي أكثر ما يستفزهم هو مصادرته أو قمعه. وهنا، إذا ما استشعر اللبنانيون استمرار الخطر، فإنهم سيعمدون لإبتكار طرقهم المناسبة للتعبير، على قاعدة أن الطبيعة لا تقبل الفراغ الذي تريده السلطة. الطبيعة تكره الصمت أيضاً. واللبنانيون لم يكفوا يوماً عن "رياضة" التصريح بتطلعاتهم وآمالهم واحتجاجاتهم.
ثلاث سنوات مراعاة
في الطبيعة الاجتماعية، يحتاج المرء إلى قوة يستند إليها، أو إلى مصدر ومرجع يستمد منهما قوته (طمأنينته وحمايته). وإذا ما افتقد ذلك، فيغامر بعيداً في البحث عن ما يؤمّن قوته. هذه المعادلة البشرية الطبيعية ستفرض نفسها على بعض السياسيين عاجلاً أم آجلاً الخروج عن صمتهم وتغاضيهم عن الممارسات التي تهدد حرية الجمهور، وسيرفعون لواء الاعتراض عالياً للحفاظ على مواقعهم داخل بيئاتهم.
ممارسات العهد، الذي تحرص كل القوى السياسية منذ ثلاث سنوات إلى اليوم على مراعاته وعدم استفزازه أو الوقوف بوجهه، ستؤدي إلى انفجار محتّم في النهاية. سينقلب السحر على الساحر، لأنه بكل بساطة هذا جزء من الطبيعة البشرية، واللبنانيون ليسوا استثناء.
يمكن إدراج ممارسات العهد وقضية الاعتراض الشعبي، وإن كان لا يزال صامتاً، ضمن خانتين. الأولى، سياسية، عبر ترسخ الانطباع لدى المواطنين والسياسيين أن العهد يريد أن بسط نفوذه أوسع مما تتيحه الأعراف الدستورية والحقوقية، ولا يترك دوراً لأي طرف أو جهة أو موقع في تحديد الخيارات واتخاذ القرارات. وهذا يُختصر بعبارة "الصراع على الصلاحيات" التي تبرز من حين لآخر بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وتنعكس توتراً سياسياً وشعبياً، بدءاً من إصرار رئيس الجمهورية على حصر كل الملفات بيده، ومن المجلس الأعلى للدفاع إلى الاجتماعات المالية والاقتصادية، إلى ترؤس الجلسات "الدسمة" لمجلس الوزراء. وتلك تتجلى في ممارسات عديدة، ليس آخرها أن يحصل اتصال من أحد المدراء في القصر الجمهوري بنقابة الصرافين لمطالبتهم بوقف الإضراب وتأجيله، واستدعائهم للقاء رئيس الجمهورية. هذا نموذج يطيح بكل المؤسسات وتراتبيتها، التي كان من المفترض أن يتم بحث هذا الأمر مع وزيري المال والاقتصاد مثلاً.
التذكير بعهد لحود
وهذا ليس المثال الوحيد على القفز فوق صلاحيات الوزارات أو الحكومة مجتمعة أو رئيس الحكومة، عدا التعميم الشهير الذي يؤنب ويتوعد الإعلام. ولا يمكن إغفال ممارسات بعض الوزراء المحسوبين على العهد، الذين يحاولون ممارسة سلطة وصاية على مختلف الوزارات والمؤسسات. وصولاً إلى مثل بسيط عبّر عنه عفوياً وزير البيئة، عندما قال: "إنه لا يريد سماع صوت أي مواطن إذا لم يفرز النفايات في منزله". هذه المدرسة والنوع من الثقافة تعبّر عن إلقاء اللوم الدائم على الآخرين، أو تحميل الناس المسؤولية. وهو نمط حديث نسبياً في الخطابة السياسية، دخل إلى لبنان بهذا الشكل مع دخول التيار الوطني الحرّ. وهذه ربما التي دفعت وليد جنبلاط إلى رفع الصوت قائلاً، إن الممارسات القمعية ستدفع بالناس إلى المزيد من الكره تجاه العهد، قائلاً: "إن الكيل قد طفح، ولغة الناس أرقى من لغة أزلام العهد وتصريحاتهم". مضيفاً: "علّموا جماعتكم الأدب أولاً".
موقف جنبلاط، يضاف إليه موقف للوزير السابق مروان حمادة وسياسيين آخرين، سراً وعلانية، قد يؤسس إلى مواجهة جديدة بين الناس والعهد، على قاعدة رفض الترهيب الذي تمارسه السلطة بالاستناد إلى النفوذ، وبحملات اعتقالات وتحقيقات بحق الناشطين أو المعترضين، على نحو يحاكي نسبياً زمن الوصاية السورية، أو إلى عهد إميل لحود (والمدعي العام عدنان عضوم)، إذ تكثر التشابهات بين العهدين، سواء بالانقلاب على اتفاق الطائف، او بالممارسات الأمنية في الوزارات والإدارات وعلى جدران وسائل التواصل الاجتماعي حالياً.
العهد الحالي ينقسم إلى قسمين، السنوات الثلاث الاولى من التسوية والمراعاة، والسنوات الثلاث التي بدأت ترتفع فيها نبرة الاعتراض على الممارسات، وتزداد فيها الخلافات السياسية، تماماً كما كان عهد إميل لحود، منقسماً إلى قسمين، ما بين العام 1998 والعام 2005، وما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الوصاية السورية مقابل تسلّم حزب الله لزمام المبادرة. في مرحلة لحود الأولى، كانت هناك وصاية عسكرية أمنية، من دون أيديولوجيا. وهي عبارة عن شبهة ديكتاتورية فارغة. ولم يكن لدى لحود هذا العدد الهائل من المناصرين أو الأزلام، إذ استدعى ضباطاً من الجيش اللبناني وضمّهم إلى "غرف الوضع"، التي كانت مرتبطة بغرفة عمليات في قصر بعبدا، وأنشئت بذريعة منع الفساد في الوزارات. لكنها تحولت إلى فرض وصايات أمنية على كل وزارة وبولسة الدولة ومؤسساتها. اليوم يتكرر السيناريو نفسه.
تعبئة فاشية
لكن أيضاً، هناك فوارق ما بين العهدين. أولاً، طبيعة السياسة اختلفت كما طبيعة رجالاتها. ما يدفع بعض الوزراء إلى اعتبار أن هذا العهد أخطر من عهد لحود، لأن فيه تعبئة فاشية، عنصرية، عائلية، شعبوية، مدعومة من أيديولوجيا تنطلق من طموح السيطرة على البلد استناداً إلى موازين قوى إقليمية. وتلتقي على ضرب اتفاق الطائف، بعد أن أصبحت السلطات في يد مدراء في القصر الجمهوري بدلاً من الوزراء المعنيين، أو أضحت الصلاحيات مناطة بأهل البيت والعائلة. في عهد لحود كان بعض الساسة يسجلون مواقفهم التي يريدونها، من دون التعرض لأي مس، أما اليوم فالمسألة مختلفة. وفي عهد لحود، كان البطريرك نصر الله صفير، راعي الحريات والمكافح في سبيلها، وصاحب الدور الأكبر في توفير الرعاية للاعتراض، إلى جانب اختلاف التوازنات السياسية. لبنان اليوم في مكان آخر، وفق ما يرى الوزير مروان حمادة، إذ يعتبر أن لبنان "أصبح مع الفرس ضد العرب"، وفيه ضُرِب ميثاق الـ1943، وانتقل إلى ضرب الطائف لإلغاء المشاركة السياسية. استمرار هذه الممارسات سيؤدي إلى انفجار حتمي، لن يكون خاضعاً لاي اعتبارات سياسية أو موازين إقليمية. وتداعياته ستكون أسوأ من تداعيات عهد لحود، إذا ما استمرت الأمور على حالها.
منير الربيع - المدن