يقع شارع مريم في منطقة دوحة عرمون، ضاحية بيروت الجديدة الناشئة في زمن الحرب وبعدها لسكن فئات بيروتية غير قادرة على تحمل كلفة السكن وتمللك الشقق المرتفة في المدينة.
سُنّة الضواحي الجديدة
وشارع مريم ضيق، لا يتجاوز طوله مئات قليلة من الأمتار، وتكتظ فيه البنايات المتلاصقة والمحال التجارية، من بائعي السمانة والأفران، إلى بائعي الخضر والجزارين وغيره. أما ديموغرافياً فتقطنه عائلات سنّية المذهب، ينتمي معظمها إلى عشائرعرب خلدة (كانوا يسمون عرب المسلخ، قبل الحرب التي هجرتهم من إقامتهم في أكواخ ومساكن عشوائية حول مسلخ بيروت القريب من المرفأ)، إضافة إلى قلة من العائلات الشيعية.
ذاع صيت الشارع في السنوات الأخيرة، بعد مناوشاتٍ عنيفة استخدمت فيها الأحزاب المتناحرة شباب المنطقة الذين انخرطوا تحت لوائها تباعاً، من تيار المستقبل وحزب الله إلى تيار الشيخ أحمد الأسير وسرايا المقاومة التابعة لحزب الله.
ويختصر الشارع بمعاركه حكاية القاع الاجتماعي اللبناني، وما آل إليه البلد من تناحر مذهبي، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، وإغارة مسلحي حزب الله ولفيفه المسلح من قوى 8 آذار، على بيروت (في 7 أيار 2008 ) لتأديب قوى 14 آذار.
مريم وقصتها في الحروب
ولكنّ من هي مريم؟
في العام 1979، وفي خضم الحرب الأهلية اللبنانية، وفدت إلى عرمون فتاة عشرينية (من عرب المسلخ، الذين كانوا يشغّلون بناتهم خادمات منزليات) هربت وذويها من منطقة الأشرفية، فاستملكت قطعة أرض في منطقة دوحة عرمون، يقال إنها ورثتها عن رب عملها الذي كانت تخدم في بيته. كانت تلك الفتاة هي مريم التي ورد اسمها لاحقاً في نشرات الأخبار التي نقلت حوادث الشارع ومعاركه.
تجلس مريم اليوم أمام دكانها، تنفث دخان نرجيلتها رويداً رويدا: امراة ستينية. كحل عينيها يروي الكثير. ابتسامتها المسالمة الواثقة تعكس حكمة نحتها الدهر على مهلٍ: "صرلي 40 سنة في الشارع. أنا أول واحدة فتحت دكاناً في المنطقة. كان همّي أن أحمي إخواتي الشباب". وشيدت مريم عمارة، وفتحت محال تجارية لإخواتها الشباب، خوفاً عليهم من الانخراط في أتون الحرب الأهلية.
عايشت مريم في شارعها جميع الأحداث التي مرّ بها لبنان. ومن شارعها ومنطقتها التي كانت أحراشاً وغابات وتحولت كومة باطون، شاهدت مريم تاريخ البلاد.
خلال الحرب الأهلية كانت تستيقظ في الرابعة فجراً، في أوقات توقف المعارك والقصف. كانت تسابق الوقت لشراء مواد للدكان من خبز وخضر وسواها من الاحتياجات. تكون في طريق عودتها من بيروت، فتسابق الرصاص: "كنت لمّا يبلش القواص في السادسة صباحاً، أختبئ في شركة الغاز في الأوزاعي لحدّ ما يهدا الوضع".
ذاع صيتها منذ تلك الحقبة، بسبب مساعدتها سكان مناطق عرمون وبشامون والشويفات، أولئك الذين كانوا يقصدونها لاقتراض المال حين لا يستطيعون التجوّل بسبب القصف، أو للتزوّد بالمؤنة اللازمة التي تحرص مريم على جلبها من بيروت إلى دكانها، على الرغم من الاشتباكات الحربية المسلحة..
عانت مريم الكثير خلال الاجتياح الإسرائيلي. كان الجنود الإسرائيليون يمنعونها من التجول، حتى لجلب مياه الشرب، ما اضطرها وإخواتها إلى ترك المنطقة والعودة إلى بيروت، حيث تتوفر الاحتياجات المعيشية اللازمة.
بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي عن المنطقة، جاء حزب الكتائب المسيحي، فتجددت المعارك بينه وبين الحزب الاشتراكي الدرزي والمستقطب شباناً من عرب المسلخ في خلدة، فسيطر الاشتراكيون على المنطقة مدة وجيزة، قبل تسليمها للجيش السوري ومخابراته، فأقام مقاره في محيط شارع مريم.
في أواخر الثمانينات بدأ تجار العقارات والبناء الجاهز بتشييد الأبنية والمشاريع السكنية في المنطقة، وراحت تتزايد الكثافة السكانية. وبات للشارع شبانه الذين يدافعون عنه ضد شبان الشوارع المجاورة التي تسكنها جماعات تتنافر هوياتها الأهلية والبلدية. كانت المناوشات حينها تتخذ طابع "قبضايات الشارع".
اغتيال وهزيمة الحريرية
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، راحت الأمور تتخذ طابعاً سياسياً - طائفياً عاماً. انخرط شبان شارع مريم السنة في تيّار المستقبل بعد اغتيال الحريري. فقد كان لتوزيع الحلوى (البقلاوة) في بعض المناطق الشيعية احتفاءً باغتيال الحريري، أثره البالغ والغاضب، على ما روى أحد الشبان في الشارع. آلية إنضوائهم تحت راية تيار المستقبل كانت عبر توظيفهم في شركة "سكيور بلاس" للحراسة المدنية الخاصة، التي تؤمن الحماية اللازمة لمؤسسات وممتلكات، وحتى المناطق، التابعة لتيار المستقبل، وكان مركز الشركة الرئيسي في دوحة عرمون.
خلال أحداث 7 أيار في العام 2008، حين قام حزب الله بـ"اجتياح" العاصمة بيروت، سلّم مبنى الشركة إلى الجيش اللبناني، وبعد مدة وجيزة أقفلت الشركة بحجة الشحّ المالي. كانت هذه "الهزيمة الثانية" التي مني بها شبان المنطقة أمام مناصري حزب الله ومحازبيه الذين تزايد عددهم بعد حرب تموز 2006. ذلك أن عائلات شيعية عدة هربت من ضاحية بيروت الجنوبية وسكنت في منطقة عرمون. وكان لارتفاع أسعار الشقق والعقارات في نطاق مدينة بيروت، أثره على إقبال العائلات الشيعية والسنية لتملك الشقق التي تناسب قدرتها الشرائية خارج العاصمة.
مع تكاثر الشيعية في المنطقة، بدأت الحزبان الشيعيان (أمل وحزب الله) يسعيان إلى إيجاد اشكال تنظيمية لهما، فقاموا في مناسبة عاشوراء بنصب خيمة أطلقوا عليها "حسينية أبو الفضل العباس" لإحياء المراسم العاشورائية. وكانت هذه المراسم تترافق مع إقفال الطرق، فتزايدت حدّة امتعاض شبان المنطقة السنة واحتقانهم، ومنهم شبان شارع مريم المعروفون بصلابتهم وتكاتفهم العشائري الموروث. وتحوّلت الخيمة العاشورائية إلى حسينية محمد الأمين، بعدما منحتهم البلدية ترخيصاً بتشييدها.
حركة الأسير وسرايا المقاومة
في العام 2011 قامت الثورة السورية على النظام الأسدي، فرفع شبان شارع مريم أعلام الجيش السوري الحر المنشق عن نظام الأسد. ومع بروز حركة الشيخ أحمد الأسير في عبرا بضواحي صيدا، في محاولة لشدّ العصب السنيّ المهيض الجناح حيال قوة حزب الله، انخرط شبان من شارع مريم تحت لواء الأسير الذي صار عندهم الرجل الذي يحاكي غضبهم وثورتهم. وتوهم أولئك الشبان أن الأسير يوازي بحضوره وخطابه التعبوي، شخصية السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله، وحزبه.
هذه الأحداث كلها عايشتها ومريم من دكانها التي كانت تبيع منتجاتها للأطراف كافة.
وترافق صعود تيار الشيخ الأسير مع ظهور تنظيم سرايا المقاومة التابعة لحزب الله، لاستقطاب الشبان غير الشيعة (أي السنة المهزومين والتواقين إلى السلاح والقوة).
أبو عطا اسم تردد كثيراً في نشرات الأخبار اللبنانية، وهو فادي .ع، الفلسطيني الجنسية، والمقيم في شارع شبعا (نسبة إلى أهالي شبعا السنة الجنوبيين) المحاذي لشارع مريم. انضم أبوعطا إلى سرايا المقاومة اللبنانية الحزب اللهية، لا بل كان من مؤسسيها في المنطقة.
لم ينخرط أي من شباب شارع مريم في السرايا اللبنانية، لا بل كانوا مناهضين لوجودها. مناوشات عدة حدثت بين شباب شارع مريم المحسوبين على تيار المستقبل وحركة الأسير وبين شباب السرايا، فانسحب أبو عطا من المنطقة مرات عدة، بسبب تفاقم الأمور، ليعود ويظهر بعد هدوء التوترات.
بعد انتهاء الحالة الأسيرية، إنضم بعض مناصريه من شارع مريم إلى حركة سرايا المقاومة بقيادة أبو عطا. وانقسم شبان الشارع، فقرر أبو عطا دخول الشارع وفرض نفسه زعيماً في المنطقة. لم يرق ذلك لشبان الشارع المعادين له، فقرروا الوقوف بوجهه متحدين العشائر وأحزابهم وسلطة الدولة. ومع محاولة دخول أبو عطا إلى الشارع بمرافقة شبان من العشائر الموالين له، وقعت معركة شرسة، فجُرح شاب من آل البشير، وهو من شبان العرب المناصرين لأبو عطا. أفضت المعركة إلى كسر شوكة سرايا المقاومة في المنطقة، فانكفأ شبانها إلى منازلهم، ومنهم أبو عطا الذي يملك مولدات كهربائية.
جرت هذه الأحداث كلها ومريم في دكانها. أحزاب ذهبت وأحزاب ولدت، احتلال جلب احتلالاً، ومعارك طائفية ومذهبية، ومريم في دكانها. نشرات إخبارية تتداول اسمها ومريم في دكانها.
لا يحتاج المرء لأن يكون رئيساً للجمهورية أو كاتباً أو سياسياً مرموقاً أو شهيداً، لتسمى الشوارع باسمه. في أحيان كثيرة يكفي أن يكون المرء/المرأة من الناس الطيبين ليُرفع اسمه علماً مكانياً، يتداوله الناس جيلاً بعد جيل.
نبيلة غصين - المدن