الضجة التي أثارها ارتفاع تكلفة التأمين على سندات الدين السيادية (CDS) الخميس الماضي بواقع 33 نقطة أساس (0.33 في المئة) إلى 990 نقطة أساس (9.90 في المئة) واحدة من الـ"مزيكا" التي يلهج بها الرأي العام ووسائل إعلام، في كل مرة تُرسل فيها الأسواق المالية إشارات سالبة الى لبنان. وكأنها مفاجأة بذاتها وغير مسبوقة. حصل ذلك أخيرًا مع تقريرين لوكالة التصنيف الائتماني موديز، وبعثة صندوق الدولي إلى لبنان. وفي الطريق تقرير ينتظر صدوره عن وكالة ستاندرد أند بورز لا يشي ببشائر.
بات القاصي يعلم والداني، أن لغة الأرقام المالية والمؤشرات الاقتصادية البائسة، على خطورتها الجمّة ليست هي المشكلة البنيوية لما نحن فيه. بل مشكلة دولة بأكملها تعطّلت مؤسساتها الدستورية عن العمل، بعد إفلاس النظام السياسي. خصوصًا إننا قادرون في خلال أيام، وبلا مغالاة على قلب التوقعات السالبة، لمجرد البدء في الخطوة الأولى لتغيير المسار السياسي والمؤسسي في البلد.
قطعنا مرحلة الصندوق!
عُزي ارتفاع تكلفة التأمين على أوراق الدين السيادية الخارجية، كما نقلت وكالة "رويترز"، إلى كلام لرئيس الجمهورية ميشال عون وفيه "إذا لم نضحِ اليوم جميعًا ونرضى بالتخلّي عن بعض مكتسباتنا، فإننا نخاطر بفقدانها كلها، حين يصبح وطننا على طاولة المؤسسات الدولية المقرضة، وما يمكن أن تفرضه علينا من خطط اقتصادية ومالية قاسية". نفت رئاسة الجمهورية في اليوم التالي (الجمعة) استنتاج "رويترز" التي "أساءت تفسير الخطاب بأنه يثير احتمال أن يضطر لبنان للذهاب إلى صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدة إذا فشلت جهود الحكومة للإصلاح". لم يذكر البيان ما قصده الرئيس "المؤسسات الدولية المقرضة، وما يمكن أن تفرضه علينا من خطط اقتصادية ومالية قاسية". وهذه الفقرة بالذات كانت وراء خبر "رويترز". وينطبق الأمر في الدرجة الأولى على صندوق النقد الدولي وقروضه. وهو ما لم يستخدمه لبنان حتى الساعة بما في ذلك من 194.65 من حقوق السحب الخاصة (SDR) وكوتا بواقع 633.5 وِحدة من حقوق السحب الخاصة. وتساوي الوِحدة (2 آب 2019) 1.373140 دولاراً أميركياً. وصندوق النقد خلافًا لشقيقه المصرف الدولي، ليس معنيًا بتقديم قروض تنموية لتمويل مشاريع. بل لدعم الفجوات المالية والنقدية في الموازنات، وموازين المدفوعات، والمصارف المركزية في العالم. وهي موجودة ونافرة في لبنان. إلى جانب مساعدات تقنية واستشارات في المجال المذكور. واستخدام قروض الصندوق دونه شروط أرثوذكسية تحتاج إلى دولة عميقة وشعب "صبور غفور"!
لكن ما التبس دعوة الرئيس أن "نضحّي جميعًا ونرضى بالتخلّي عن بعض مكتسباتنا". توحي الدعوة وهلةً أولى بأنها موجهة إلى القوى السياسية. فالشعب لم يعد لديه ما يضحّي به. إذا كان النظام السياسي الذي يعتاش على اقتصاد عمّق فجوة توزيع الثروة بين المواطنين، وكلّفهم ضرائب ورسومًا من دون حقوق في الخِدمات البديهية للإنسان، فليس جائزًا توزيع أعباء الخروج من الأزمة على نحو جائر. "المكتسبات" المطلوب التخّلي عنها هي واقعًا امتيازات طالما جاءت من الدولة المنهوبة، والتصرف بالمال العام على زبائنية سياسية صنو النظام ومدمّرة الدولة. والمكتسبات هي لقاء الحقوق المكتسبة بالجهد وبشرعة القانون. معضلتنا بالإمتيازات. وتبدأ في أعلى المراتب الدستورية ومؤسسات الدولة والوظيفة العامة. وحين يصل الاستئثار إلى حدّ العبث بالدستور والقوانين وبمؤسسات الرقابة والمحاسبة فعن أي تصنيف نتحدث، وأي درجة نرتجي؟
الأفدح لدينا
معضلتنا ليست في وكالات التصنيف الائتماني والسيادي. ولا مع صندوق النقد الدولي وغيرهما. هي صناعة سياسية لبنانية بلغت مستوى التخريب العَمد. في هذه الأجواء من الإهتراء السياسي والمؤسسي، لا ننتظر تراجع الفوائد على الديون السيادية. ولا تكلفة تأمينها ضد المخاطر. ولا ننتظر ترقيًا في درجات التصنيف طالما استمرّت صناعة المخاطر. نحو 90 في المئة من إصدارات الديون السيادية في العالم تتلقى النصح من وكالات التصنيف الثلاث موديز وستاندرد أند بورز وفيتش. ليس أوان تقييم جدارة تلك الوكالات المهنية. لكن اثنتان منها شكّكتا بقدرة لبنان على التزام عجز موازنة 2019. ومعهما صندوق النقد الدولي. حزمة التقييم ومعاييرها واسعة جدًا. قد تكون المخاطر على الدين السيادي مالية واقتصادية ونقدية. وقد تكون سياسية وأمنية. عندنا ما هو أفدح. بالإضافة إلى تلك المخاطر، فقد بلغنا مرحلة الدولة الفاشلة. دول كثيرة واجهت أزمات مالية ونقدية واقتصادية. بيد أن مؤسساتها ضاعفت نشاطها لجبه الأزمات. وحين بدا أن صراع الخيارات والنماذج لجبه الأزمات والخروج منها عالقًا في عنق الزجاجة السياسية، استقالت حكومات تكرارًا وجيء بأخرى. حصل ذلك في اليونان، والأرجنتين، واليابان ودول كثيرة أخرى. ونجحت بلدان عدة كانت على شفا الإعسار المالي في إجراء انتخابات نيابية مبكرة. لا لشيء، سوى لأن دساتيرها محترمة، وقوانينها نافذة ومؤسساتها عاملة، رغم الخلافات السياسية بين أحزابها.
نسينا الموازنة وسيدر. وقفل معابر التهريب، ووضع حد للتفلّت الجمركي ووضع مرفأ بيروت. أتحتاج هذه إلى "تضحية والتخّلي عن المكتسبات"؟ أم إلى دولة تنفذ قراراتها لاستحصال المليارات كي نقول لموديز وشقيقاتها وصندوق النقد الدولي، إننا عند التزامنا عجز موازنة 2019. وسنبدأ في موازنة 2010 بمزيد من التوازن والإنضباط والرقابة المالية.
ممنوع على مجلس الوزراء عقد جلسة إلاّ بشروط "أهل الهوى". ونبحث عن كل ثغرات الدستور لتخريبه وبث الفرقة بين اللبنانيين. ونبحث عمّن يقود الوطن ويوقف التدهور. لم نعد نحتاج الى تصنيف سيادي وائتماني. تصنيف الجدارة السياسية اولًا. هذه هي القضية التي ترفع تكلفة الفوائد، ومخاطر الائتمان، وتكلفة تأمين السندات السيادية.
عصام الجردي - المدن