أبهر لبنان العالم في السنوات الماضية بتجاربه العجيبة، وتصدرت أخباره عناوين الصحف والمواقع الالكترونية العالمية على نحو فكاهي، فتناولت قضية "نهر النفايات" وعجز النظام السياسي في البلاد عن توفير الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء. ناهيك عن المناكفات السياسية والتصريحات غير المسؤولة التي خسّرت بيروت مليارات الدولارات، في حين تعاني الحكومة اللبنانية من أحد أكبر أعباء الدين العام في العالم. وتعمل على تسويق فكرة الإصلاحات التي ما زالت عرضةً للإنتقادات الدولية، لما تحمله من شوائب، أبعد ما تكون عن التوصل لحلول جذرية.
الدولة والمقاولين
قامت الحكومة اللبنانية، حسب وكالة "بلومبرغ" الأميركية، بكل ما لديها من جهدٍ لتقدم موازنة وُصفت بأنها الأكثر تقشفاً في تاريخ البلاد، على أمل استرضاء المستثمرين والمانحين وشركات التصنيف. لكن تراكم المتأخرات التي تكمن وراء هذا التحول، يخفي مخاطر مالية كبيرة مع تأجيل الحكومة المدفوعات إلى المقاولين والهيئات العامة، ما يحسن أرقام الموازنة وينعكس سلبياً على مجتمع الأعمال.
تجاوزت المدفوعات المتأخرة لهذا العام وحده 900 مليون دولار، ما جعل إجمالي المبلغ المستحق أكثر من 2 مليار دولار. وبهذا الخصوص قال نقيب المقاولين في لبنان المهندس مارون الحلو للوكالة، إن الحكومة مدينة لمقاولين بمبلغ 300 مليون دولار، وإنهم بدورهم يتخلفون عن سداد الديون و"هذا يخلق أزمة كبيرة جداً". وقد علق وزير المالية علي حسن خليل بالقول للوكالة إن المتأخرات سيتم دفعها تدريجياً عندما تتوافر السيولة، وأن لا صلة بين تخفيض العجز وعدم دفع المستحقات.
السيولة لن تتوفر
وفقاً لموازنة 2019 التي صادق عليها البرلمان مؤخراً، فإن تأجيل المدفوعات وتأجيل المشاريع الوزارية يشكلان ما يقرب من نصف التخفيض الإجمالي في الإنفاق. وهنا يشير شخص على اطلاع على الموازنة، طلب عدم ذكر اسمه للوكالة، أن خطة الحكومة لهذا العام هي فقط لتغطية رواتب القطاع العام وتكاليف خدمة الدين والتحويلات السنوية لشركة الكهرباء. وعلى الرغم من أنها خصصت 1.18 مليار دولار للنفقات، تم إنفاق أقل بقليل من 200 مليون دولار في الأشهر الأربعة الأولى.
وتعليقاً على خطوات الحكومة وتأخير الدفع للمقاولين، قال الخبير المالي جايبران كورانا من بنك "مورغان ستانلي"، الذي يُعتبر من أكبر المؤسسات المالية الأميركية، أن بيانات وزارة المالية اللبنانية حول خفض العجز في الأشهر الأربعة الأولى كانت مدفوعةً بتقليص النفقات وليس بزيادة الإيرادات، وهذا أمرٌ لا يعتبر مثالياً. من جهته، اعتبر الخبير الاقتصاي سامي نادر، إن الضرائب المرتفعة، إلى جانب انخفاض احتمالات النمو الاقتصادي في عام 2019، قد يؤدي إلى الإضرار بالإيرادات. واستطرد قائلاً "بدلاً من تقديم التحفيز، ذهبت الحكومة في الاتجاه المعاكس. لذلك هناك احتمالات كبيرة أن تشهد ميزانية هذا العام، إيرادات أقل".
النظرة الإسرائيلية
بعيداً عن قرقعة السلاح، والحديث عن توازن الرعب واحتمالات الحرب، ثمة من يقول داخل الدولة العبرية، أن لا داعي للدخول في حربٍ مع لبنان، أو حتى فرض عقوبات على الحكومة اللبنانية، فالمسار السياسي والاقتصادي القائم سيكون كفيلاً بتدمير البلد وإيصاله إلى الحضيض، فما فائدة إنفاق مبالغ مهولة على حربٍ مع بلد يقوم ساسته بخدمة أعداءه بطريقة غير مباشرة؟
وفي هذا الإطار، اعتبرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، أن قادة لبنان يدركون جيداً المشكلة لكنهم ليسوا على عجلة لمعالجتها. فقد تم تشكيل الحكومة الحالية في كانون الثاني الماضي بعد 252 يوماً من المفاوضات، واستغرق الأمر أربعة أشهر للوصول إلى خطة إصلاح الكهرباء، التي حددت أهدافاً نبيلة لبناء المزيد من محطات الطاقة من دون إنشاء بنية تحتية تنظيمية أو حوافز للقطاع الخاص لبناءها. كما أن "مافيا المولدات" المرتبطة بالمؤسسة السياسية اللبنانية، ستجعل فرص الإصلاح ضعيفة.
"قرى بوتيمكين"
ومثل إصلاح الكهرباء، تشّبه "هآرتس" الموازنة بـ"قرى بوتيمكين" ( حادثة قديمة في روسيا خلال القرن الـثامن عشر، قام فيها الحاكم الروسي آنذاك، غريغوري ألكسندروفيتش بوتيمكين، ببناء مستوطنات مزيفة لإخفاء الظروف المتداعية في جزيرة القرم، أثناء زيارة للإمبراطورة كاترين الثانية) المصممة لإقناع جمهور من المانحين الدوليين والمستثمرين الأجانب بأن كل شيء على ما يرام، أو على الأقل يتحسن، بينما تستمر الأعمال كالمعتاد. وبعد أن كان من المفترض أن يُخفض العجز إلى 7.6 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، كان بعض النواب يدعون إلى خفضه حتى 6.6 بالمئة، وهو ما تعتبره الصحيفة صعب المنال.
سيكون من الصعب على لبنان، كما تفترض الصحيفة، خداع جميع الأسواق طوال الوقت. فتكلفة التأمين على ديون لبنان، وهي مقياس لكيفية قياس المستثمرين لمخاطر التخلف عن السداد، تراجعت لفترة وجيزة في أعقاب موافقة البرلمان على الموازنة. ومع ذلك، عاودت ارتفاعها الأسبوع الماضي لتصل إلى أعلى المستويات في العالم.
رهان قادة لبنان
كان لبنان بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مركزاً إقليمياً للخدمات المصرفية والمالية، وملعباً للأثرياء من العرب والغربيين. وعندما بدأت مليارات النفط تتدفق إلى الخليج بعد عام 1973، كانت بنوك بيروت هي التي تدير معظم الثروة. إلا أن خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية والسيطرة على البلاد من قوى مختلفة وضعت حداً لهذا العصر الرائع، وجعلت الفقر بعدها يستوطن البلاد مع اختلال في البنية التحتية والخدمات الحكومية.
لذلك ترى الصحيفة، أن قادة لبنان ربما يراهنون على أن الأموال ستتاح في نهاية المطاف، من دون ربطهم بأي سلاسل مزعجة، عندما تكون البلاد في خطر التخلف عن السداد. وإذا لم تكن هناك حجة اقتصادية جيدة لإنقاذ بلد فاسد، فهناك دائماً القضية الجيوسياسية التي يمكن التلويح بها لضمان الاستقرار. ومن منظور المؤسسة السياسية اللبنانية، فإن الأزمة سوف تحل كل شيء من دون تكلفة. وهي تعتمد القاعدة التالية: "كن صبوراً، استمر في التظاهر، وسيأتي الفرج من السماء".
المصدر: المدن