لبنان يصارع لاستقطاب التحويلات الخارجيّة

لبنان يصارع لاستقطاب التحويلات الخارجيّة
لبنان يصارع لاستقطاب التحويلات الخارجيّة

شهدت الأسواق الماليّة، خلال الأيام الماضية، مبادرات جديدة لمصرف لبنان، تعكس إصراره على خوض معركة استقدام الدولارات إلى السوق اللبناني من الخارج بأي ثمن، في ظل الأزمة الماليّة التي بلغت ذروتها هذه السنة. فالموجودات الخارجيّة لدى القطاع المالي، والتي تتضمّن السيولة بالعملة الصعبة التي يملكها القطاع، انخفضت هذه السنة ولغاية شهر أيار بأكثر من 5.19 مليار دولار. وهو ما يُظهر تحولاً قياسياً للعملة الصعبة باتجاه الخارج، مع العلم أن لبنان لم يشهد سابقاً هذا المستوى من التحويلات للخارج في سنة واحدة. في الواقع، يدرك مصرف لبنان أنّ هذه المشكلة بالذات هي العامل الأكثر خطورة اليوم على النظام الاقتصادي القائم، وهو ما يبرر توجّه قراراته الأخيرة نحو تطويق هذه المشكلة بالذات.

عمليّات استثنائيّة جديدة من مصرف لبنان
لا يبدو أنّ مصرف لبنان يحبّذ إطلاق توصيف "هندسات" على عمليّاته الاستثنائيّة الجديدة، والتي يحاول من خلالها الحصول على العملة الصعبة، ربما بسبب موجة الانتقادات الصريحة والمبطّنة التي تعرّض لها عند إجراء هندسات الـ2016 من كثير من الأطراف. لكنّ المبادرة التي قرر مصرف لبنان إطلاقها الآن تشبه إلى حد كبير منطق الهندسات الماليّة نفسها. إذ تعتمد على منح أرباح كبيرة وسهلة من خلال عمليّات متزامنة، مقابل توظيف العملة الصعبة لديه.

فالمبادرة التي يطلقها مصرف لبنان اليوم، تقوم على تحفيز المصارف على اجتذاب الدولارات من الخارج وتوظيفها، عبر شراء سندات اليوروبوند التي بحوزته، والتي تستحق خلال فترات تتراوح بين 3 و5 سنوات. مع العلم أن أسعار السوق لهذه السندات حاليّاً تمنح عوائد مرتفعة تصل لغاية 11 في المئة لبعض إصدارات اليوروبوند. في المقابل، يمنح مصرف لبنان قروضاً مدعومة لهذه المصارف بالقيمة نفسها بالليرة اللبنانيّة، بفوائد رمزية تبلغ 2 في المئة. وعمليّاً، ستتمكّن المصارف من توظيف هذه السيولة المقترضة في سندات الخزينة بالليرة اللبنانيّة، محققة فوائد تتجاوز 10 في المئة.

بمعنى آخر، ستتمكّن المصارف من تحقيق الربح من ناحيتين: أولاً عبر العوائد التي ستتقاضاها من خلال شراء سندات الخزينة بالدولار (بين 10.25 في المئة و11 في المئة)، وثانياً من خلال الفارق بين فائدة القرض المدعوم التي ستدفعها، والفائدة التي ستتقاضاها من التوظيف في سندات الخزينة بالليرة (يتجاوز الفارق 8 في المئة).

المصارف تواكب المبادرة
لم تتأخّر المصارف في العمل من أجل الاستفادة من هذه المبادرة الجديدة. فخلال الأيام الماضية، تداول اللبنانيون نسخة من رسالة الكترونيّة من أحد المصارف اللبنانيّة الكبرى، تحتوي على عرض خاص يمنح فوائد تصل لغاية 40 في المئة خلال فترة ثلاث سنوات (أي بحدود 13.3 في المئة سنويّاً). ويقوم العرض على تجميد المبلغ خلال هذه الفترة، مقابل أن يتقاضى المودع أوّل دفعة من الفائدة قبل بدء التجميد (ربع قيمة الفائدة)، فيما يتم تقسيم دفعات الفائدة الباقية خلال السنوات الثلاثة.

وفي نص الرسالة، يبدو من الواضح أن العرض يشترط أن يكون مصدر الوديعة من خارج لبنان، وهو ما يؤكّد ارتباط هذا العرض المصرفي بمبادرة مصرف لبنان التي تشترط الأمر نفسه. ومن ناحية أخرى، يمنح العرض المصرفي نسبة فائدة مرتفعة جدّاً على الدولار مقارنةً بفوائد السوق الحاليّة، وهو ما لا يمكن تبريره إلا من خلال عمل المصرف على الاستفادة من هذه الودائع، للمشاركة في عمليّات مصرف لبنان الاستثنائيّة الجديدة، التي تمنح فوائد أعلى.

إغراءات "محاسبيّة"
لم تقتصر الإجراءات الجديدة على منح التوظيفات بالعملة الصعبة أرباحاً استثنائيّة ومرتفعة. فقبل أيام أصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً عدّل فيه من طريقة احتساب المصارف لأرباحها من توظيفاتها في عمليّات وهندسات مصرف لبنان الاستثنائيّة. فالتعميم سمح للمصارف بتسجيل كامل الأرباح المحققة من كل عمليّة بشكل فوري في ميزانيّاتها، بينما كانت تفرض الشروط السابقة على المصارف تقسيم تسجيل هذه الأرباح على مدى السنوات التي تشملها العمليّة.

هذا التعديل في طريقة احتساب وتسجيل الأرباح، والذي يسمح بتجميل الميزانيّات المصرفيّة وأرقامها، يمثّل اليوم حافزاً إضافيّاً للمصارف للمشاركة في هذا النوع من العمليّات، خصوصاً أنّه يسمح بتحسين أرقام رساميلها وأرباحها خلال هذه الفترة التي تضغط على أرباحها. وبالتالي، يتكامل هذا القرار مع كل جهود مصرف لبنان التي تنصب على تشجيع استقطاب العملة الصعبة، في إطار العمليّات الاستثنائيّة التي يجريها.

ظروف ضاغطة
لا يمكن فصل هذه القرارات والإجراءات عن الظروف الماليّة الضاغطة، التي أشار إليها تقرير صندوق النقد، حين تحدّث عن ضعف تحويلات المغتربين، وتوقّف الودائع عن النمو، وتراجع إحتياطات مصرف لبنان بقيمة 6 مليار دولار. كما لا يمكن فصلها عن الوقائع التي ذكرها تقرير موديز عن الضغوط القاسية، من ناحية التحويلات الخارجيّة والعملة الصعبة المتوفّرة، والتي ربطها التقرير بالقدرة على إيفاء سندات اليوروبوند عند الاستحقاق.

ومن هنا، يبدو أن مصرف لبنان قرر محاولة لملمة آثار الأزمة وشراء الوقت على المدى القصير، من خلال هذا النوع من الإجراءات. لكنّ مشكلة هذه الإجراءات – مثل مشكلة هندسات 2016 - أنّها لا تفيد إلّا بإخفاء بعض العوارض خلال الأشهر القليلة المقبلة، بينما لا تساعد على المدى الأطول في تحقيق أي إصلاح بنيوي، قادر على انتشال الإقتصاد اللبناني من أزمته العميقة. وعلى أرض الواقع، تكمن الحلول الحقيقية لهذه الأزمة في الإطار الاقتصادي الشامل والسياسات الرسميّة المتعلّقة به، وليس على المستوى المالي أو النقدي، وهو ما يعني أن الحل لا يجب أن يكون من خلال مصرف لبنان أو المصارف.

علي نور - المدن

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى خسائر فادحة في قطاع الاتصالات