في العام 1981، وعقب انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، استدعى الرئيس رونالد ريغان الخبير الاقتصادي موراي لو وايدنبوم (Murray Lew Weidenbaum) ليكون المستشار الاقتصادي الرئيسي لصوغ السياسة الاقتصادية للعهد الجديد. ورسم وايدنبوم خطوط الاقتصاد الاميركي معتمداً سياسة تقول انّ منظمة التجارة العالمية تشكل فرصة مهمة للاقتصاد الأميركي، ودعا الى تعزيز الانفتاح لأنّ أميركا ستكون المستفيد الاول من هذه الوضعية. وبالفعل، نجحت نظريات المستشار وعرف عهد ريغان ازدهاراً اقتصادياً لافتاً، ساهم في إعادة انتخابه لولاية أخرى.
في العام 2016، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاستعانة بالخبير الاقتصادي بيتر نفارو (Peter. Navarro) لرسم معالم النهج الاقتصادي للعهد. وطرح نفارو خطته على أساس أن لا مصلحة لأميركا في البقاء في شرنقة الالتزامات بمنظمة التجارة الدولية، أو ضمن الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية أو المتعددة الأطراف. وبدت أميركا وكأنها تنقلب على نفسها وعلى الأسس التي كانت تُعتبر مدماكاً أساسياً في ازدهار الاقتصاد الأميركي. لكنّ المفاجأة للبعض انّ خطة نفارو نجحت، وسجل الاقتصاد الأميركي حتى الآن نتائج وأرقاماً مرتفعة رفعت شعبية ترامب وأهّلته للترشح بثقة لدورة رئاسية ثانية ستجري في العام 2020.
هذا التناقض في السياستين الاقتصاديتين الذي أعطى في الحالتين نتائج ايجابية، فسّره خبراء بأنه يرتبط بتغيّر الظروف. وهؤلاء يقولون انه لو بقي وايدنبوم حياً، (توفي عام 2014) واستدعاه ترامب كمستشار لكان بدّل خطته، وتبنّى ما أقدم عليه نفارو، لأنّ الظروف تغيرت، وصارت تحتّم تغيير الخطط الاقتصادية.
الملاحظة هنا، انّ دونالد ورونالد تعاونا مع مستشاريهما الاقتصاديين قبل الوصول الى البيت الابيض، بل انّ حملتهما بشقها الاقتصادي تضمّنت خطة اقتصادية رسمها المستشار، وجرى تبنّيها وتنفيذها بعد الفوز في الانتخابات.
هذان النموذجان يمكن النفاد منهما الى الوضع اللبناني لاستنتاج ما يلي:
اولاً - لا توجد نظرية جامدة في الاقتصاد، وما يُجدي اليوم قد يصبح سيئاً في الغد اذا تبدلت الظروف.
ثانياً - نجاح المشروع الاقتصادي لكل سياسي طامح الى مواقع متقدمة، يؤهله لضمان الفوز أكثر.
ضمن هذه المعادلة يمكن مقاربة سلة المقترحات التي تقدم بها وزير الخارجية جبران باسيل الى مجلس الوزراء. وهو وان كان وزيراً في الحكومة، الا أنه من الطامحين الى الرئاسة ويرغب مثل كل مرشح افتراضي أن تكون لديه خطته الاقتصادية الخاصة التي تواكب نهجه السياسي. وهذا ما يبرّر إقدام جبران على طرح ما اعتبره مشروعاً إنقاذياً للموازنة، في ربع الساعة الأخير في المناقشات الوزارية. وهو بذلك أراد من خلال هذا التوقيت واحداً من الامور التالية:
اولاً - ان يطلّ على الرأي العام في مظهر المُنقذ، بعدما يكون قد تبيّن انّ المداولات الوزارية لم تتوصّل الى النتيجة المأمولة في خفض العجز في الموازنة.
ثانياً - تقديم أوراق اعتماد الى المجتمع الدولي الذي يعلّق أهمية كبيرة على الموازنة اللبنانية كممر إلزامي لإنقاذ الوضع المالي ومنع الانهيار، مع ما يستتبع ذلك من احتمالات قد تصل الى هزّ الاستقرار العام في بلد يأوي نحو مليون ونصف مليون لاجئ سوري.
ثالثاً - حشر الوزراء في التوقيت القاتل لإجبارهم على تبنّي المقترحات، خوفاً من الوصول الى نهاية شهر ايار، واستحالة إقرار الموازنة قبل انتهاء مهلة الصرف وفق القاعدة الاثني عشرية.
لكن الواقعية تفترض، ومع الاشارة الى سلبية التوقيت الذي اختاره باسيل لتقديم أوراقه وبصرف النظر عن «المكاسب» التي ربما يسعى اليها، أن تتم مناقشة المقترحات بجدية، والحكم على مضمونها رغم الملاحظات المبرّرة في شأن طريقة الاخراج التي اعتمدت لتقديمها. صحيح انّ التأخير في الموازنة ينطوي على مخاطر وأثمان على الوضعين المالي والاقتصادي، لكنّ الصحيح أيضاً انّ الموازنة متأخرة في الأساس، وهي تبدو وكأنها موازنة المفعول الرجعي، بدليل انّ 5 أشهر مضت، ولم يبق الكثير لتطبيق مندرجات الموازنة في العام 2019. لكن، بين أن تصدر الموازنة غداً، وتتضمّن نتائج صادمة لا تشكّل أساساً لإنقاذ الاقتصاد، وبين ان تتأخّر بضعة أيام وتأتي متوازنة وتتضمّن ما يوحي بالانقاذ، من البديهي انّ التأخير يبقى أقل كلفة. لكن هذا الكلام لا يعني انّ سلة جبران هي في أساس الانقاذ، وقد تكون المقترحات التي قدمها غير ناجعة، وينبغي رفضها. لكن ما هو مطلوب ان تتم مناقشة موضوعية للمقترحات لأنّ الهدف هنا التوصّل الى صيغة انقاذية، ولا علاقة للناس اذا ما كان جبران يراهن على نجاحه الشخصي من خلال هذه المقترحات، ام لديه حسابات أخرى.
يبقى انّ البعض يتساءل من هو المستشار الاقتصادي الذي قدّم لجبران هذه السلة من المقترحات؟
البعض يقول انّ وزير الاقتصاد منصور بطيش هو المساهم الأول في هذا المشروع، وانّ جبران الذي سبق وقدم مشروعه السياسي للرئاسة من خلال اطار سياسة "التيار الوطني الحر"، أراد اليوم ان يقدم مشروعه الاقتصادي. وقد اختار التوقيت بدهاء، على اعتبار انه اذا تم تبنّي مشروعه ونجحت أفكاره في المساهمة بالانقاذ، يكون قد كسب نقطة في معركة الرئاسة المقبلة. واذا لم يمش المشروع في الحكومة، وصدرت الموازنة هزيلة من حيث نسب خفض العجز، يكون قد نأى بنفسه مسبقاً من تهمة الانهيار، وطرح نفسه مشروع معارضة اقتصادية للنهج الذي أوصل الى الكارثة، وبذلك ينجو سجله في السباق للرئاسة من هذه الوصمة.
لقراءة المقال كاملاً اضغط هنا.