إيلي كوهين اللبناني!

إيلي كوهين اللبناني!
إيلي كوهين اللبناني!

تُشبِه قضيّة القاء القبض على رئيس حركة الناصريين الاحرار محمد زياد العجوز في جوانبٍ منها، تلك المتعلّقة بإكتشاف "جاسوسية" إيلي كوهين، أو كامل أمين ثابت كما عُرِفَ في سوريا، حيث نجحَ كوهين، بفضل براعته، من إختراقِ الصفّ السياسيّ السوريّ والتدرّج على سلَّمِ المناصبِ قبل أن يُصار الى اكتشاف أمره.

تشغيل "ايلي كوهين" بصفة رجل الأعمال كامل أمين ثابت، كان بمثابة تجارة إسرائيليّة مربحة، تمكَّنت تل أبيب عبرها من الحصول على مكتسباتٍ أمنيّةٍ وسياسيّةٍ من جرّاء إقحامِ جاسوسها في صلبِ البنية السياسيّة السوريّة يومها. ثم أنّ هذا النموذج تحوَّل إلى مجالٍ استثماريٍّ استخباراتيٍّ إسرائيليٍّ طويل الأمد، مُحدّثٌ بإتقانٍ ومن خلال أشكالٍ متعدِّدةٍ.

 

وفي الأوراق السريّة، إعترافات إسرائيليّة صريحة حول إنتاجِ أكثرِ من نسخةٍ "كوهونيّة" وإقحامها في نسيجِ أكثر من دولة عربية، بعضها نجحَ وبقيَ طي الكتمان والقسم الآخر، لم يُكتَب له النجاح فإنكشَف أمره، ولا نعلم لغاية الآن كم من "كوهين" أُنتِجَ، وهل هناك أحياءٌ بينهم يؤدّون خدماتهم إلى اليوم؟

مناسبة فتح هذا النقاش، تأتي مع إكتشافِ جاسوسٍ لبنانيٍّ هذه المرَّة وليس يهوديًّا، يحمل تقريبًا جينات "الكوهينيين" الوظائفيّة نفسها لكن بأسلوبٍ آخر، وفق تأكيد أكثر من مصدرٍ.

العجوز، الذي أُلقيَ القبض عليه في مطار بيروت الدولي خلال محاولته دخول البلاد، تُجمِع الأوساط المعنيّة، على ضلوعه في جريمة التعامل مع العدو الاسرائيلي، لذلك كان مثار شكوك منذ فترةٍ، فتمّ إصدار وثيقة إتصال بحقّه وأُدرِجَ على لوائحِ الاخضاع كمطلوبٍ هام، لكنّ الحظّ العاثر اقفل الباب على تكرارِ "النموذج الكوهيني" نفسه في لبنان، واكتشاف أمره.

القليل من الغبار يُثار حول القضية، حيث أنّ التنقيب عنها صعبٌ، نظرًا إلى التكتّم الشّديد الذي يلفّها من جانبِ المعنيين بها. وطوال أسابيع، لم ننجح في الحصولِ على معلوماتٍ وافيةٍ حول الموقوف، إن لجهة المهام الوظيفيّة الموكلة إليه أو لناحية السعي إلى معرفة أيّ تفاصيلٍ حول تجنيده، وكان الجواب المُتكرِّر عن الاسئلة، أنّ "العجوز عميل ذات نموذجٍ مختلفٍ عمّا هو معهودٌ من العملاء".

لكن ما يجب التوقّف عنده، هو الهامش الواسع والدقيق جدًا، المُحاط بالسرية والتكتم الشديدَيْن حول الموقوف، ما يدلّ على "دسامته" وحرص المعنيين على عدم تسريب أيّ معطياتٍ "واضحةٍ" حوله، وهذا يظهر في سياقِ تعامل المصادر مع هذه القضية بالذات، إذ تكتفي بالحديث عن معلوماتٍ "عامّة لا خاصّة" مرتبطة بالموقوفِ، من دون أن تغرقَ في سردِ تفاصيلِ التحقيق.

الثابت، أنّ عمالة العجوز راسخةٌ، إذ أنّ المعطيات التي تمتلكها الأجهزة المعنيّة سابقًا وتلك التي جرى استقاؤها حديثًا، سواء عبر آليّات خاصّة أو من خلال إعترافات الموقوف عند إلقاءِ القبضِ عليه، تدلّ على أنّه متورطٌ في "كارِ العمالة"، كما يجري التأكيد، مع الأخذِ بعين الاعتبار، أنّ المشروع المرسوم له، كان يختلف عن ذاك الذي رُسِمَ لعملاءِ الموساد الآخرين الذين يكلَّفون عادة بمهامٍ لوجستيّة تقنيّة أو تشغيليّة ذات علاقة بالرصد والتتبع داخل لبنان.

النموذج الحديث الذي بين أيدينا، صُمِّمَ بحسب معنيّين، من أجل إختراقِ الطبقة السياسيّة ونسجِ علاقاتٍ مع أفرادٍ سياسيّين، مستفيدًا من مركزه كأمينٍ لحركة عروبيّة ناصريّة، ذات تاريخٍ قديمٍ قد ينفع في زيادة منسوبِ الاستثمار، أيّ أنّ الوظيفة الميدانيّة المُخصَّصة للعميل الجديد، كانت ترتكِز على بناءِ علاقاتٍ سياسيّةٍ واسعةٍ.

وما حضوره إلى بيروت إلّا لهذا الغرض، إذ استبق ذلك بإجراءِ محادثاتٍ هاتفيّةٍ مع مجموعاتٍ سياسيّةٍ عريضةٍ، وبناء علاقاتٍ معها، أيّ أنه كان يعدّ العدَّة لوظيفته الجديدة.

وعلى الأرجحِ، أنّ سعي الموقوف إلى إعادة تفعيل "الحركة" سياسيًّا، ما هو إلّا بهدفِ استثمارها في وظيفته، لناحية إعادة بثِّ الروحِ فيها على ثوابتها القديمة نفسها، والعودة إلى مخاطبةِ القواعدِ بهدفِ اجتذاب المؤيّدين. وليس سرًّا، رصد مبالغٍ كبيرةٍ في العادةِ من أجلِ تحقيق هكذا هدف.

الخطيرُ في الموضوعِ، أنّ إنشاء وبناء علاقاتٍ سياسيّةٍ وتوسّعها لاحقًا إلى علاقاتٍ شخصيّةٍ، يعدّ بمثابة ممرٍّ لإدخال مختلفِ أصنافِ السياسيين إلى الحياة الخاصّة بين بعضهم، بحيث يتسنّى بعد ذلك الاطلاع على جانبٍ من الحياةِ الخاصة في كلّ بيتٍ، وربّما الأسرار في حال توطّدت العلاقة أكثر، وبالتالي، فإنّ هذا الإستثناء يسمح بالاطلاعِ على الجوانبِ الأمنيّة والسياسيّة والعائليّة التي يتمتّع بها الرجل السياسي "فلان"، وطبعًا، هذه المواد التفصيليّة يسعى خلفها أيّ جهاز استخباراتي عالمي.

وفي تقديرِ المُتابعين، أنّ ما رُسِمَ للعميل المُلقى القبض عليه في بيروت، هو الاهتمام بهذا الجانب تحديدًا، بمعنى بناء علاقاتٍ سياسيّةٍ مع شتّى الأطرافِ بالاستناد إلى ما يتمتّع به من منصبٍ، وهذا الأسلوب يُستَخدَم للمرّة الأولى في لبنان، إذ لم يسبق لبلاد الأرز، أن إقتحمها "عميلٌ أو جاسوسٌ" لغاية إحداثِ إختراقٍ في عُمقِ الطبقةِ السياسيّة وإنشاءِ علاقاتٍ تُستَثمَر إسرائيليًّا.

وإلى أن يتَّضح الخيط الأبيضِ من ذاك الاسودِ، نكون اليوم أمام نموذجٍ ثانٍ من إيلي كوهين، إنّما بظروفٍ مختلفةٍ وقواعدٍ تشغيليّة أخرى، وجينات استخباراتيّة مغايرة، تقود طبعًا إلى الأهداف نفسها.

عبدالله قمح - ليبانون ديبايت

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى